أول كلمة قلتها لصديقي الذي أبلغني بإعلان البيان الأول للانقلابيين: “إذا نجح الانقلابيون في السيطرة على مفاصل الدولة، فستنشب حرب أهلية فظيعة”. قلت ذلك لمعرفتي بطبيعة الشعب التركي. هو شعب شرس، وعنيد، وشامخ، وغير قابل للتدجين. لذا ستسيل دماء لا حصر لها، وسنشاهد مجازر تفوق خيال مخرجي أفلام الرعب، وستمتلئ الشوارع بجثث المحتجين. وسينتصر الشعب في النهاية، لكن الثمن أنهارٌ من الدم.
قلت ذلك على اعتبار أن ما حدث هو “انقلاب للجيش” كما شاع، قبل أن نعرف بعد ذلك أنها ليست إلا مجموعة صغيرة من الجيش، تصادمت مع الجيش نفسه، والشرطة، والمخابرات، وطبعاً مع الشعب، الذي قلب الموازين.
لكن الصور التي لم تعرضها الفضائيات، هي تلك التي سكنت في ذاكرتي، والتي تظهر فيها الأزقة الداخلية والبيوت “تفقس” بشراً يتسابقون إلى سياراتهم للحاق بالمظاهرات، ويظهر فيها رجال يصعدون ظهر كل سيارة تحركت ليلحقوا بالمتظاهرين، من دون أن يعرفوا بعضهم البعض. على أن المنظر الأكثر مهابة تجلى في تسابق النساء إلى الشوارع، رغم أن مظهرهن الأوروبي لا يوحي بأنهن يملن إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم.
شيء أشبه بالسحر. ما إن شاع الخبر حتى غصت الشوارع بالمتظاهرين الغاضبين، نساء ورجالاً، يسيرون ويركضون وهم يشتمون ويتوعدون ويحوقلون ويصرخون، والهراوات في أيديهم. كانت غضبة لأمواج من البشر، تبدو على ملامحهم مظاهر الاستعداد للموت. كان المنظر مهيباً إلى درجة لا تسمح بخروجه من الذاكرة، وإلى درجة أنك ستقسم أن أحداً منهم لن يضع الحذاء العسكري على رأسه، بل سيقطع حذاءه هو على رأس العسكري الانقلابي.
أكثر هؤلاء خرج إلى الشارع قبل أن يعرف كم عدد الانقلابيين وماهيتهم. ويقول أحدهم رداً على سؤالي: نحن الآن، كشعب، أصحاب القرار، نحن من يختار الحزب الذي يشكل الحكومة، ونختار رؤساء البلديات، ونختار المسؤولين الذين يتنافسون على إرضائنا، فإن نجح العسكر في انقلابهم فسيتحكمون هم بالقرار، وسيتنافس المسؤولون لإرضاء العسكر لا الشعب، وسيحرص العسكر على الحفاظ على كراسيهم على حساب مصالحنا ووطننا، وستنهار تركيا ويُهان الشعب، لذلك سنقاتل ونموت دفاعاً عن حقوقنا وبلدنا.
وكنت قد قلت قبل أيام، تحديداً بعد تفجير مطار أتاتورك: “الشعب التركي عظيم، فعلاً لا قولاً”، وقلت: “في المصائب والتحديات الكبرى يلتصق بعضهم ببعض وينسون اختلافاتهم السياسية”، وأظن أن الأحداث الأخيرة أثبتت ذلك.