بينما يعيش العالم تحدياته الجنونية، إخفاقاته السياسية والاقتصادية والأمنية، يعيش الناس تبعات هذا التهديد باحتياجات سيكولوجية. جملة التحديات الخانقة، سياسية واقتصادية وأمنية، التي يعيشها العالم الآن قد تجعل من فكرة الرئيس التقليدي العادي في ذهنية العامة القلقة أمرا غير مطمئن. لذا فهذه المخاوف تعزز من احتياج الشعوب لفكرة الزعيم غير التقليدي. ويبدو أن العالم الآن يبحث عن ذهنية الزعيم القيادي بصيغة أو بأخرى ليطمئن به هذه المخاوف، كحالة بشرية مشتركة. تلك المخاوف التي تعزز شعور القومية وأهمية استحضار صورة الأمة. وأمريكا ليست استثناء بطبيعة الحال. وهذا ما يحاول أن يعوضه المرشح الرئاسي الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب. وكما فعل في مناسبات عديدة خلال حملة الانتخابات التمهيدية الحزبية، تحدث ترامب كزعيم قوي أكثر مما تحدث كمرشح حزب “لدي رسالة إليكم جميعا: الجرائم والعنف التي تعانيها بلادنا اليوم ستنتهي قريبا. ومع حلول الـ 20 من كانون الثاني (يناير) 2017 سيستعاد الأمان”. بعيدا عما يقوله ترامب رغم عدم وضوح سياساته الخارجية أو حتى الداخلية، إلا أنه نجح في إقناع الكثيرين، لحاجتهم إلى هذا الزعيم القيادي أيا من يكون. وربما أكثر ما لفتني في أقوال ترامب هو أنه لن ينتقد الانتهاكات الداخلية للأنظمة المتشددة، لأنه يرى أن مشكلات العنف داخل أمريكا لا تعطيها الحق الأخلاقي لانتقاد الحكومات الأخرى، كما بعث برسالة ضمنية للحلفاء والخصوم بأنه يفضل اعتماد سياسة أكثر انعزالية من أسلافه للتركيز على حل مشكلات البلاد، وأنه لن يتورط في نزاعات الشرق الأوسط. وعدم الانخراط في الشرق الأوسط بطبيعة الحال لا يتماشى مع “تكراره الدائم” لأهمية أمن أمريكا بتعزيز أمن الشرق الأوسط، من خلال حل قضية سورية أو حتى تقويض الاتفاق النووي مثلا. لكن هل يكون ذلك بالتحالف والقيادة من الخلف مجددا، من خلال الرئيس الروسي بوتين الذي لا يخفي إعجابه به، بل وصفه بالزعيم القوي، مع تطلعات لصداقة جديدة مع روسيا. وهل القيادة من الخلف تتماهى مرة أخرى مع شعار “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، make America great again تحت زعامة ترامب؟
قد تظهر فكرة صورة الزعيم في روسيا من خلال بوتين، وفي كوريا الشمالية من خلال كيم جونج أون، وتظهر/ وظهرت في واقع ومخيلة الشعوب الأخرى في المنطقة والعالم سواء ذلك من خلال زعامة دينية أو سياسية، راديكالية، قومية، أو حتى فاشستية.. فكرة الزعيم كذلك تغري المنطقة العربية والإقليم للأسباب نفسها وهي المخاوف وعدم استقرار المنطقة. فظهرت نسخ سياسية مختلفة كعبد الناصر وصدام والقذافي أو حتى بمضمون ديني سياسي راديكالي متطرف لبعض المتطلعين كالخميني ونصر الله.
وعلى اعتبار الفكر الإنساني فكرا مشتركا، حولت الثورة الفرنسية الاتجاه إلى رمزية القومية أو الأمة. ظهرت فكرة القومية في أوروبا كنظام بعد الحرب العالمية الأولى، لأسباب منها القلق من انهيار الدول كما تداعيات الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوروبا بين 1920 و1930، في دول كألمانيا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا. وقد رحلت الفكرة القومية من أوروبا منذ القرن الـ 19 بعد موسوليني وهتلر، وحمل العرب تركتها الثقيلة حتى القرن الـ 21. تلك الفاشية التي تلاقحت مع شخصية العربي نفسه الذي يعشق الحس الخطابي العاطفي للزعيم الملهم الذي يحرك مشاعر الجماهير المهزومة بعمق.
وثمة فروقات جوهرية بين الأيديولوجيات القومية الغربية وبين العربية رغم تشابه الصياغة الأولية. فالقومية الغربية لعبت على وتر الأمة وطغت لكنها أسست لما يدعم ويؤسس لهذا الشعور القومي بأن أنتجت أنظمة صناعية متقدمة اقتصاديا كما في ألمانيا. بينما لم تنتج الحركات العربية سوى تقديس أعمى. رافقت فكرة الفوهرر / الزعيم الملهم والقائد ضرورة استقلال بعض الدول العربية، وهي فكرة فرضتها ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية معطوبة. إلا أنه وحتى الآن، لا يزال العربي يبحث عن الزعيم ويجتر فكرة الزعيم/ القائد كحلول لمعضلات سياسية آنية. كذلك العالم الآن يستعيد صيغ الزعامات. ولطالما شبه ترامب بهتلر في أفكاره الجامحة التي لم تتحول بعد إلى تطبيق حقيقي، والتي قد تكون مجرد استثارة آنية يتحول بعدها كما فعل جزئيا الآن إلى بعض الاتزان في كرسي الرئاسة. وتبقى كاريزما القوة هذه هي محرك الأتباع. وهي فكرة باطنية عميقة تستحضر صورة المخلّص والمنقذ بصيغتها الدينية. فكاريزما الزعيم قد تتجاوز الحدود والإقليم لتنال إعجاب شعوب أخرى بحثا عن الصورة نفسها. فهل ينتظر العالم عودة الزعيم من خلال أمريكا نفسها؟ ترامب قريب جدا.