ليس لدى أيّ منا انتماء كامل لهذا البلد. عادة تسبق مثل هذا الاقرار مقدمات وتحليلات ونتائج تقنع القارئ بسلامة وصحة مثل هذا الادعاء. لكن هنا، واليوم، حرصت على ان اضعها في المقدمة او «تدرعم» بلا اشارات او مقدمات. ليس لدى اغلبنا انتماء بالكامل لهذا البلد. ليس لأننا خونة كما يتلذذ البعض في وصف من يختلف معهم، وليس لأننا نوالي بلداً او موطناً آخر. ولكن ببساطة لأن وعينا الاجتماعي لم يتطور بدرجة كافية حتى يطغى الولاء «الوطني»، المنشود من قبل الجميع، على انتماءاتنا او ولاءاتنا الطائفية والعرقية، وحتى الاجتماعية.
لهذا، فإن اغلبنا يميل بقوة المصلحة الاجتماعية، او الطائفية، او العرقية، الى الانحياز لأي من هذه المؤسسات ضد مؤسسة الدولة او الوطن. بل يعمل البعض او عمل في الواقع كثيرون على وضع مصلحة الدولة او الوطن بمرتبة ثانية لمصلحة تعظيم وتعزيز ما يؤمنون به او ما هم فيه من واقع اجتماعي وسياسي.
كل الكويتيين أتوا من مكان ما، من الشمال ومن الجنوب، ومن شرق وغرب الخليج. وحمل كل منهم، وبلا استثناء، وعيه وواقعه الاجتماعي معه.. ولم يأت منفرداً. ولم تكن صدفة ان يختار المهاجرون من المنتمين للمذهب الشيعي السواحل الشرقية مقراً لهم. ويختار الاغنياء السنة السواحل الغربية، فيما يجد المهاجرون البدو راحة اكثر في المناطق الجنوبية، او الاقرب الى الصحراء. حتى بعد الطفرة النفطية، تمدد الوضع الاسكاني للكويتيين، لكنه لم يتغير كثيرا كما هو مفترض. اذ استمر المواطنون الشيعة، او من الاصول الفارسية من المذهب الشيعي بالذات، في تفضيل المناطق الساحلية الشرقية، مثل الرميثية والدعية والدسمة، فيما واصل اهل قبلة التمدد غربا في الشامية والشويخ، وبالطبع فضلت القبائل او البدو ما يعرف حاليا بالمناطق الخارجية. وبهذا ظل الكويتيون كما هم، حضر وبدو، سنة وشيعة، وحتى اصيلين وبياسر.
كان المفترض ان يؤدي التمدن وغلبة الحياة العصرية الى خلط اهل الكويت. وبالتالي الى تحقيق هوية وطنية مشتركة. لكن المؤسف ان هذا ما لم يحدث، خصوصاً بعد ان تدخلت ظروف قسرية سياسية ــ اختارها البعض ــ في تحديد التطور والوعي العام. وبعد ان تجلت بإصرار رغبة أطراف مهيمنة في الاسرة الحاكمة على التحكم بالوضع الانتخابي، وبالتالي تقليص وتحديد التطور الديموقراطي او النظام الديموقراطي نفسه. وهكذا نشأت «الغيتوات» في الكويت بدعم وتفضيل بعض المهيمنين على الوضع في ذلك الوقت. ولم يكن صدفة أن تكون منطقة انتخابية كاملة مثل ام الهيمان %100 من قبيلة واحدة. من الممكن المبالغة والادعاء بانهم «تحاططوا» واشتروا هناك، وهذا كان سيكون ممكناً لو لم تكن المنطقة ملكية حكومية وتوزيعها الإسكاني حسب الاولوية.
وهكذا عملت الديموقراطية بفعل التحريف الحكومي على تعزيز وتجذير الوعي البدائي لدى ــ الناخب ــ المواطن الكويتي. وحتى تكون هناك مصداقية في هذا الاستنتاج او بالاحرى الاتهام، تجب الاشارة إلى ان كل هذا لم يكن ممكنا لو لم يكن لدى المواطن نفسه استعداد عرقي وطائفي واجتماعي للمشاركة، وربما حتى قيادة هذه الردة الاجتماعية السياسية المقصودة. لهذا فالملام هنا هو واقعنا الاجتماعي، وليس من عرف كيف يستغله.
ليس لدى اغلب الكويتيين الحاليين ولاء وطني، او ان شئنا ان نكون حريصين ولاء وطني كامل او انتماء اقليمي محسوس وواضح. الكل اسير عقليته القديمة الطائفية او القبلية او الاثنتين معا. انا كتبتها قبل سنوات.. يظن المواطنون الحضر على سبيل المثال انهم تحرروا من موروثهم القبلي، وعقليتهم الصحراوية. لكن الحقيقة التي تجسدت ولا تزال تتجسد في اكثر من مثال.. ان هذه العقلية لا تزال تتحكم في سلوك وتفكير المواطن رغم انفكاكه الظاهر ــ وعند البعض ــ المقصود عن تراثه واصوله الاجتماعية. وها انا اكرر المثل مرة ثانية.. عند بداية التثمين تسابق الكويتيون وتنافسوا من اجل هد بيوتهم وتثمينها. ومن تخطاه التثمين بفعل الواسطة «كل شوارع العاصمة غير مستقيمة، لان الرغبة في التثمين، وليس الهندسة، هي من كان يخطط»، من تخطاه التثمين كان يحس بالظلم والغبن، لان مسكنه او موطنه لم يثمن.
عند الشعوب المتحضرة، التي لديها انتماء كامل لمواطنها واعتزاز فردي بخصوصيتها، تطغى الرغبة في الالتصاق بالموطن او الارث المادي على النزاوت او الشهوات المالية. لهذا قرأنا الكثير من الروايات الاجنبية، وشاهدنا افلاما سينمائية متعددة، تدور حول تمسك الفلاح الغربي بأرضه او مزرعته في مواجهة اغراءات المطورين، الذين هم في الغالب شركات النقل، التي تسعى الى مد سكك الحديد، او بناء المحطات على ارض الفلاح المعني، الذي يقاتل وينجح في النهاية في الاحتفاظ بأرضه بدافع الانتماء والاحساس بالملكية الفردية، لانها كما يردد الفلاح او الراعي «ورثتها عن والدي وسأورثها لابني». عندنا بفعل غياب الوعي للانتماء والالتصاق بالارض اضطر بعض المواطنين الى رشوة بعض مسؤولي البلدية من اجل تثمين بيوت آبائهم واجدادهم.
هذه العقلية هي التي كانت خلف هدم مبانينا ومجسماتنا التاريخية، من كرة ثانوية الشويخ الى المسجد الحالي، الذي يتنازع بعض المهتمين مع الجهات المعنية للاحتفاظ به.
نتفهم تخلف اغلبنا، وهيمنة انتماءاته القبلية او الطائفية عليه. فهذا واقعنا الاجتماعي، فهذا هو المواطن الكويتي وهذه – رغم قساوة المثل- خلاقينه. لكن ما لا يمكن فهمه او حتى القبول به، هو إصرار بعض منا، وهم كثيرون، ومهيمنون، مع الاسف، على الساحة السياسية، إصرار هذا البعض على تخوين غيره واتهام الآخرين بالعمالة للاجنبي، في الوقت الذي يعلن هو فيه انتماءه وولاءه لجهات وحتى دول خارجية، دون ان يقلق لهذا الولاء الخارجي او الانتماء المزدوج. ويجري هذا بكل أسف يوميا، وبشكل محموم ومتواصل، خصوصا عندما يتعلق بالولاء الطائفي الذي يحرص كل من السنة والشيعة على ابرازه وإشعال جذوته في كل مناسبة. وليست الاحداث الاخيرة في تركيا الا مثال واضح على ما نطرحه، وهي في الواقع الدافع لكتابة هذا المقال.
الذين تدافعوا واشتطوا ــ عبر تويتر ــ للدفاع عن النظام التركي ضد الانقلابيين هم انفسهم من كان يتهم الغير بالولاء او حتى الاهتمام بغير الكويت. بحيث يصبح الدفاع ــ النظري ــ المستميت عن النظام التركي قضية مشروعة، بل وحتى وطنية محبذة. بينما الدفاع او الاهتمام بالوضع الايراني على سبيل المثال جريمة وطنية وشركا دينيا! قد يدعي مؤيدو اردوغان انهم يؤيدون النظام في محنته او في مواجهة اعدائه. لكن عندما يتعلق الامر بالكويت، فانهم يزعمون ان ولاءهم الوطني يأتي في المقدمة. قد يكون هذا صحيحا، وقد لا يكون. لكن من الصعب بعد مشاهدة مقدار الحماس والتأييد للنظام التركي الاعتقاد بان الامر مجرد فضول او زيادة وقت فراغ، خصوصا ان البعض يدعو بشدة ووضوح الى الخلافة العثمانية، اي الى الاحتلال التركي للاراضي غير التركية. الولاء الطائفي الديني اليوم هو المتسيد، وحل مكان الوعي القومي او الوحدوي العربي، الذي كان على استعداد في اوقات وظروف عديدة لأن يضحي بالكويت في سبيل فلسطين او حتى لعيون جمال عبدالناصر. والمواطنون الكويتيون الشيعة مثل السنة، كانوا سيضعون الكويت في مرتبة ادنى من الخميني بالامس او اردوغان اليوم.
***
كلما دخلت مكانا مكيفا بعد حر لاهب.. أترحم على مخترع تكييف الهواء المرحوم «ولس كارير». هذه الايام ودرجات الحرارة تشتد في الكويت. قد يكون ضرورياً تذكر السيد كارير والترحم عليه. لكن أعتقد يبقى من الضروري تذكر العاملين في محطات الكهرباء والماء، وفي الواقع تذكر العاملين في كل مكان. خصوصا من يؤدون الوظائف الاجتماعية الضرورية. كإنتاج الكهرباء والماء والوقود والغذاء.. وايضا الذين وفروا لك متعة قراءة هذه الجريدة.. لست في الكويت اليوم.. ولكن، اجد من الواجب، شكر العاملين المذكورين، فهم بتضحيتهم وجهدهم يجعلون استمتاع كثير من يعز علينا بالحياة في هذه الاجواء ممكنا. واجد من الضروري الدعوة الى التفكير الجدي الى تكريمهم ماديا اولا، ومعنويا ثانيا.