أحب بريطانيا، وأهيم بكل ما فيها من بشر وحجر وفن ومتاحف وطرقات ومطر وتاريخ وعملة.
فيها عرفت حبي الطفولي الخائب الثاني، وفي مسالك دروبها تهت لساعات وساعات، وأنا ابحث عمن تواسي وحدتي في ليالي شتائها الباردة، يوم لم أكن أعرف الفرق بين كوعي وبوعي.
نصف قرن مر سريعا على معرفتي بتلك العجوز المتصابية، او الصبية المتعاجزة، فلندن لا تشيخ، ولن تعجّز مهما مر عليها أو سيمر عليها في القريب أو البعيد من الايام. فذكراها، وذكرياتي عنها، وكل ما نهلته من عسل ومعرفة فيها، ومن صداقات، ستبقى معي برائع شخوصها الحية، وفي مرتبة عالية من ذاكرتي المملوءة بثلاثة ارباع قرن من ألوان قوس قزح الزمان والمكان.
بريطانيا الأمس، بريطانيا البيتلز، والميني جوب، وبرتراند رسل، ونادي فكتوريا والبالم، وهارودس، وكوينز واي، ومعارض إيرلز كورت، وسيارات الرولز والميني كوبر، و007، وجيمس بوند، وبورفيمو وعشيقته الجميلة كرستين كيلر، ومئات الوجوه الجميلة والشخصيات العالمية والمحلية الرائعة الأخرى، كلها بدأت تهرم وتبهت ألوانها، حتى باركليز الكبير، أصبحت ممتلكاته عرضة للنهش من هذه المؤسسة الآسيوية، أو تلك الشخصية النفطية. بريطانيا اصبحت كملكتها، وقورة وذات ماض رائع، ولكنها هرمة ولا تستطيع مجارات النمور الصاعدة، ولا حتى القرود القافزة من حولها، التي خرجت بالأمس القريب جدا من تحت عباءة سيطرتها، وبقيت في كومنولثها، الذي بهتت ألوانه أيضا، واصبحت بريطانيا دولة تكال لها اللكمة الاقتصادية تلو الأخرى المالية، وهي تئن وتعن، من دون أن تستطيع فعل الكثير لرد الضربات عنها.
بريطانيا، يا من في شوارع وأزقة وشقق عاصمتك سرحت ومرحت وأحسست بطعم الحرية وبمذاق الإنسانية، أعدك بأنني سأكون، ككثيرين غيري، أوفياء لك مهما جار الزمن عليك، فقد كنت وفية وحنونة ورائعة معي، ومع وطني، وليس من طبعنا عدم الوفاء! واعلم جيدا أن عظمتك ليست في العملة، ولا في الانتماء لأوروبا، ولا في سياسييك، بل في جامعاتك ومعاهدك ومختبراتك وتراثك الثقافي والإنساني ومستشفياتك وصحفك، وما يصدر منك يوميا من كتب ومؤلفات رائعة ومخترعات مفيدة، وكل هذا سيبقيك على روعتك وجمالك، مهما طال الزمن وجار.