لا أشعر أنني كهل حسب مقاييس عصري، بالرغم من تجاوزي السبعين، فذكرياتي في غالبيتها حية، منذ أيام ذهابي للملا لتلقي دروس حفظ القرآن، حتى التحاقي بعدها بمدرسة الصباح ثم الصديق، ومن بعدها الثانوية التجارية.
كانت طرقات مدينتي حينها متربة، والمياه شحيحة، ووجبات طعامنا بسيطة، ومع بداية النصف الثاني من القرن العشرين تغير الحال، وانقلب الشظف لراحة لتتحول تالياً لرفاهية، وتتعداها، كل هذا في الجانب الاستهلاكي، فالوفرة المالية لم تجلب لشعوب المنطقة الكثير، فقد بقيت مستهلكة لمظاهر الحضارة، مع تخلف واضح عن ركبها، وكان من الممكن أن تحقق الكويت شيئاً، بعد أن أثبتت ريادتها في الكثير من الميادين، ولكن التخلف والغلو جاءا ليقضيا تالياً على كل أمل.
أما في الدول الأخرى، وبعد أن تبخرت أحلام ما بعد الاستقلال من الرجعية والاستعمار، فقد زادت أوضاعها سوءاً مع كل حركة انقلابية يقوم بها جيش هنا ويقوم بما يماثلها ضابط مغمور آخر هناك، وهكذا استمر، أو امتد تخلف شعوب المنطقة من الفترة الاستعمارية التركية مروراً بحكم دولتي فرنسا وبريطانيا لها، وصولاً لنهاية القرن العشرين، والوضع فيها يقارب الانهيار، بعد سلسلة الهزائم العسكرية والمدنية التي نالت منها في كل ميدان تقريباً، وأصبح جلياً أن كل الآمال في اللحاق بالدول المتقدمة، أو حتى نصف المتقدمة، قد تلاشى إلى الأبد، وأننا سنكمل قريباً ألف عام من التقهقر والتخلف نتيجة كل هذا التطاحن الطائفي والقبلي والتفكك الاجتماعي والحروب والخلافات الداخلية، والخارجية الأشد. كما تبين أن كل ما شيد من مدارس ومعاهد وجامعات، مع تواضع مستوياتها، بالكاد تكفي لاستيعاب نصف ما تقذفه بطون الأمهات من مواليد جدد. وأن ما تلفظه الجامعات والمعاهد من مخرجات لا يجد نصفه وظيفة تستر جزءاً من عورات حياته! واستمرت الهوة التي تفصل الدول العربية عن الدول نصف النائمة بالاتساع، مع نهوض نصف النائمة من سباتها، وإغراق منتجاتها أسواق دولنا، ثم أصبحت هذه تقوم تالياً ببناء سدودنا وتشييد جسورنا وبناء مطاراتنا، ورصف طرقاتنا، وأصبحت مثالاً في التقدم التقني والبروز الأخلاقي، والاستقرار السياسي، وشكّل كل ذلك محنة للمواطن العربي الذي لم يجد أمامه ملاذاً غير الارتماء في أحضان الأحزاب الدينية، وما تسرب منهم للإرهابية، لاعتقادهم أن هواننا يكمن في ضعف تديننا، والسعيد من هؤلاء الشباب من نجح في الهرب من واقعه المر، لواقع أقل مرارة في الخارج.
ولو أخذنا «ثورة» الفاتح من سبتمبر، التي قام بها ضابط صغير عام 1969 مثالاً لما حصل في الدول العربية «التقدمية والثورية»، لوجدنا كيف وضع حاكمها، منذ اليوم الأول، نصب عينيه قلع عيون مواطنيه، قبل تفريغ جيوبهم، وتحطيم آمالهم، والزج بكبارهم في السجن، ودفع ما تبقى منهم للجنون. كما قام بجدارة يحسد عليها بصرف المليارات على الفارغ من المشاريع والسياسات المجنونة والفاشلة، وكانت نهاية «ملك ملوك أفريقيا» أن ما صرفه على السلاح ارتد ضده وضد وطنه، بعد أن وقع في أيدي القبائل والعصابات لتتحول ليبيا لدولة فاشلة بكل المقاييس.
والسؤال: ما السبب في تخلف معظم الدول الإسلامية؟ هذا ما لا يسمح لنا بالإجابة عنه، حالياً، وهذا سبب كل محننا!