أنا من الاقتصاديين الذين لم يدر بخلدهم يوما ما أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولعل القارئ يلاحظ أنني لم أدل بدلوي في هذا الموضوع لاعتقادي الجازم أن الأمر لا يتطلب عناء المحاولة، حتى استيقظت على الصدمة، بتصويت البريطانيين بأغلبية على الخروج. ولعل القارئ المتابع يعرف تداعيات ذلك على الأسواق وعلى العملات والسلع، خصوصا النفط، ولكن السؤال الملح في الوقت الحالي هو؛ هل يتفكك الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا؟
كان من نتائج التصويت تعالي الأصوات هنا وهناك في أوروبا بمنحهم الفرصة ذاتها للخروج، ربما لم تصل هذه الأصوات إلى المستوى ذاته من الزخم الذي بلغته في بريطانيا، ولكن التصويت بالخروج كشف عن كثير من مكامن الخطر التي يمكن بالفعل أن تفكك الاتحاد الأوروبي. فما الذي سار على نحو خاطئ؟
عندما أقوم بتدريس مادة الاقتصاد الدولي فإن أحد أهم الموضوعات التي أدرسها موضوع التكتلات الاقتصادية وفوائدها وأهميتها، بل وحتميتها في عالم يتجه نحو أن يصبح قرية واحدة بما يشهده من ثورات في مجال التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، ولكن على الرغم من أن للتكامل الاقتصادي فوائد واضحة، فإنه في المقابل له تكاليف عديدة لا يمكن إهمالها. حيث يقوم التكامل الاقتصادي على حرية تدفق السلع والخدمات والعمال ورؤوس الأموال بين الدول الأعضاء، ومن الناحية النظرية تعد العوائد المتوقعة من مثل هذا النموذج هائلة، ومع ذلك فقد رأينا البريطانيين يرفضون هذا النموذج ويصرون على العودة مرة أخرى إلى إغلاق حدودهم لمواجهة تحدياتهم الداخلية، وعلى رأسها توفير فرص عمل كافية للبريطانيين وتحسين مستويات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
أهم المخاطر التي يمكن أن تفكك الاتحاد الأوروبي أن فيه سياسات رفاهية اجتماعية غاية في السخاء، على النحو الذي يضع تحديات كبيرة أمام المالية العامة للدول الأعضاء، خصوصا عندما يتعرض الاتحاد لتيار هجرة جارف، سواء من داخل أوروبا، أو من خارجها. في مقابل ذلك تتصاعد اليوم في أوروبا موجات التعصب ضد المهاجرين، بسبب التكلفة المصاحبة لهم، حيث دب الخلاف داخل أوروبا حول كيفية توزيع الأعباء المالية للمهاجرين، وهو ما أدى ببعض الدول إلى إغلاق حدودها، وبعد أن كانت ترحب بالهجرة، فقد شهدنا أخيرا إشارات من ألمانيا بعدم ترحيبها بالهجرة المفتوحة.
لقد كانت الهجرة على رأس العوامل التي تقف وراء قرار البريطانيين بالخروج، لتبني سياسات المساعدات الاجتماعية الخاصة بهم وعلى النحو الذي لا يهدد سلامتهم المالية. فهل تكون الهجرة وسياسات المساعدات الاجتماعية الخاصة بها أحد معاول هدم الاتحاد الأوروبي؟ في رأيي لا، فلا شك أنه مع تزايد الضغوط المالية على هذه الدول سيتبنى الاتحاد الأوروبي سياسات أخرى للمساعدات الاجتماعية، تعيد تعريف المستحق لها، وتضع شروط الاستحقاق لها على النحو الذي يحد من تيار الهجرة.
يصاحب قضية الهجرة مشكلة تنامي الإسلاموفوبيا، أو الخوف من المد الإسلامي، وهي نتاج لتنامي أعداد المسلمين إما بسبب الهجرة أو بسبب ارتفاع معدلات الخصوبة بينهم، بحيث يتزايد التخوف من عدم التوازن السكاني بين المنتمين للأديان المختلفة في أوروبا في المستقبل لصالح الإسلام. لذلك يتزايد القبول الشعبي لتيار المنادين بأنه لا مكان للإسلام في أوروبا. لكني أعتقد أن الهجرة المتوازنة مفيدة لأوروبا، في ظل التراجع الواضح في معدلات الخصوبة وتزايد نسب كبار السن. ففي ظل هذه الأوضاع تعد هجرة صغار السن هي الحل لمشكلة نقص أعداد الداخلين الجدد من العمال، وأن ضغوط الهجرة هي نتاج عوامل طارئة مرتبطة بعدم الاستقرار السياسي في بعض دول الشرق الأوسط، خصوصا سورية.
أوروبا تواجه أيضا مشكلات اقتصادية عديدة تتنوع بين ضعف النمو وتراجع التضخم وانخفاض معدلات التوظيف وارتفاع معدلات البطالة فضلا عن تزايد مستويات الدين العام وارتفاع تكلفته. المشكلة أن التكتل الاقتصادي يحد من قدرة الدول على التحرك منفردة لمواجهة هذه التداعيات. على سبيل المثال لقد ألغى أعضاء منطقة اليورو عملاتهم المحلية وتبنوا عملة موحدة، وفقدوا بالتالي أحد أهم خيارات السياسة النقدية في التعامل مع الأزمات الاقتصادية، وهي التوسع النقدي وتخفيض قيمة العملة، كما أن فرض سياسات لمعدل فائدة واحد داخل دول لا تتشابه في مستويات النشاط الاقتصادي محليا يعرض عديدا منها للمشكلات، وهو الأمر الذي عقد من مشكلات دولة تعاني ديونا متراكمة مثل اليونان، التي أصبحت تشكل عبئا على ميزانيات الدول الأعضاء الأخرى للإبقاء على عضويتها داخل التكتل.
لهذا السبب سوف تظل اليونان صداع منطقة اليورو إلى أن يتم وضع اقتصادها على طريق مستدام ماليا، ولا يمكن تحقيق ذلك سوى بالتنازل عن قدر هائل من الديون التي يملكها الاتحاد الأوروبي على اليونان لخفض دينها السيادي من مستويات مرتفعة جدا حاليا، إلى مستويات معقولة كنسبة من الناتج لتعزيز قدرة الاقتصاد اليوناني على خدمة ديونه، وهذا لا يمكن أن يتم من خلال المؤسسات المالية الخاصة الدائنة لليونان، وإنما من خلال الأموال العامة للدول الأعضاء، وهو ما يحمل تكلفة مالية كبيرة لميزانيات دول الاتحاد الأوروبي ويثير مزيدا من الشكاوى حول جدوى الاستمرار في إطار الاتحاد الأوروبي، وتحمل هذه الأعباء المالية الكبيرة نتيجة أخطاء الغير.
خارج اليونان ما زالت الأوضاع الاقتصادية في دول الـ PIIGS غير مستقرة، ولكنها ليست بالسوء ذاته، فإسبانيا والبرتغال وإيطاليا تتعافى جزئيا على الرغم من أن البطالة ما زالت مرتفعة، وكذلك مستويات وأعباء الديون. ولكن من الواضح أن أي تعقد للأوضاع الاقتصادية لإحدى الدول الأعضاء سيتطلب تحويلات مالية ضخمة، وهي تكلفة قد لا تستطيع أن تتحملها ميزانيات الدول الأعضاء، وبالتالي فإن سلامة التكتل تتطلب خروجا سريعا من الأزمة لتخفيف الأعباء المالية المحتملة، وهو أكبر تحد يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم. بالطبع هناك عوامل أخرى مهمة نهملها لضيق المساحة.
باختصار، فإن الاتحاد الأوروبي يعد من التكتلات الاقتصادية المميزة، ولكنه يواجه عديدا من المشكلات التي تهدد قدرته على الاستمرار، التي تتطلب إصلاحات مؤسسية وقانونية وإدارية. فهل يتفكك الاتحاد الأوروبي؟ يقيني هو لا، وربما أكون مخطئا، فصدمة بريطانيا علمتنا أن نبقي كل الخيارات مفتوحة حتى وإن تعارضت مع ما تعلمناه وندرسه في الفصول الدراسية.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟