يمكن أن نعرف الحالة المزرية للفكر المتطرف لدينا من ملاحظة كتابات مواقع التواصل الاجتماعي بعد جريمة داعش الأخيرة بحرق الطيار الأردني حياً، مجمل تلك الردود تتلخص في إدانة فاترة للجريمة إلا أنها تتحفظ وتذكر القارئ بجرائم الأنظمة العربية، سواء في سورية أو في مصر أو غيرهما، فهنا يعيد الفكر التبريري إنتاج نفسه تحت ستار التفسير “العقلاني” بأن جريمة داعش الوحشية يمكن تقبلها لأنها نتيجة طبيعية، إن لم تكن حتمية لوحشية النظام العربي، فماذا يعني عند أصحاب هذا التبرير حرق إنسان حياً طالما هناك مئات وآلاف الأبرياء يحرقون من هذه الأنظمة، عندها تصبح الجرائم الداعشية، وغيرها من جرائم مرعبة تمارسها “المقاومة الجهادية”، حسب جمهور هذا الفكر الإرهابي المتستر بالعقلانية الفارغة، عمليات ثأر مشروعة ويتعين تقبلها ضمناً.
الكارثة العربية هنا، ليست وجود “داعش” أو النصرة وغيرهما ممن اتخذوا من فكر المقاومة المشروعة وسيلة لإظهار أبشع صور السادية الإجرامية في نفوس هـؤلاء المناضلين المزعومين، الكارثة هي في الثقافة العصابية المتشنجة عند شرائح عريضة في مجتمعاتنا العربية، فحين يذبح مجرمو داعش ضحيتهم وينشرون فيديو الجريمة عبر الإنترنت، وكأن هذا قصاص رباني مارسه ممثلو العقيدة الحقة يعيد التبريريون تذكيرنا بما تمارسه عدد من الأنظمة العربية نحو المعارضين، وإذا قام اثنان من المدافعين عن العقيدة بقتل محرري “شارلي إيبدو” بحجة الدفاع عن الرسول، ثم حجزوا رواد سوبر ماركت فيه يهود، يقفز التبريرون لنقد النظام القانوني الفرنسي ومفاهيم الأوروبيين في حرية التعبير، يذكروننا بجرائم إسرائيل في غزة، ويتراكض هؤلاء لإظهار صور رؤوس مقطوعة لمغاربة أيام الاحتلال الفرنسي لدول المغرب العربي، وهكذا تمضي سلسلة التبريرات، والتماس الأعذار لأبشع جرائم القرن الواحد بحجج الأنظمة العربية وتعليق كل الشرور عليها وعلى الإرث الاستعماري، وهكذا الجريمة تفسر الجريمة، والوحشية من سلطة حاكمة تبرر وحشية مقابلة لقوى إرهابية.
لا جدل في مسؤولية النظام العربي والغرب في ولادة جماعات التطرف الإرهابية من الناحية التاريخية، بعد قيام الثورة الإيرانية عام 79، وبعد التدخل السوفياتي في أفغانستان، ولا خلاف في أن الأنظمة العربية عندما ضربت ما يمكن اعتبارهم بالإسلاميين المعتدلين، حين تحدى الأخيرون شرعية هذ النظام عبر صناديق الاقتراع، بعد ثورات الربيع العربي، فتح هذا النظام العربي المتخلف صندوق باندورا للشرور لجماعات التطرف الإرهابية، ولا خلاف في مسؤولية النظام العربي عن تناسل الجماعات الإرهابية حين تلاعب بالورقة الدينية لكسب الشرعية السياسية، ومسؤولية هذا النظام بالترويج لمشروع الدولة الدينية عن جهل ودون وعي، حين عجز عن تطوير مناهج التعليم، وزاد من جرعات التعليم الديني على حساب بقية المواد التعليمية، وخلط الديني بالدنيوي، وزايد على الجماعات الدعوية الدينية في مشاريعها، لينافسها على أرض التقوى والورع، كما يريد، وفي الوقت ذاته حارب نشر الفكر الحر والفلسفة والفنون وبقية العلوم والآداب الإنسانية… لا جدل في كل ما مضى حين ندين هذا النظام بمآسي العالم العربي، لكن هذا لا يعفينا ولا يسوغ تبرير جرائم الإرهاب الجهادية وتسويغها بحجة هذا النظام العربي، ففي النهاية ليس هذا النظام الحاكم اليوم غير نتيجة طبيعية لحال المجتمعات العربية، فلنعد النظر في ذواتنا من جديد، فهناك أكثر من زرقاوي وأبوبكر البغدادي وبن لادن صغار يتحركون بكل حرية في العقل الباطن للذات العربية.