حتى هذه اللحظة، مازلت أتذكر تفاصيل صورة جمعتني واثنين من عظماء الصباحية قطعة واحد.
مازلت أتذكر ربع الدينار الذي يطل من جيب مبارك العازمي بكل شموخ، دلالة على الثراء الفاحش والحياة الأرستقراطية التي ينعم بها. وأتذكر السبحة الواضحة في يد منصور المطيري، دلالة على النضج ودخول مرحلة الرجولة (كان في الثامنة من عمره).
وأتذكر وقفتي العسكرية بينهما، كقائد ألماني نجح في اقتحام حصون باريس، وقبضتا يديّ على وسطي، والتجهم المهاب يكسو تعابير وجهي، من دون أن أنسى ارتداء الطاقية بطريقة مائلة، دلالة على “القلب الخضر”، والاستعداد للمغامرات العاطفية، والتلاعب بقلوب الصبايا الحسناوات (ملاحظة: لم يكن هناك أي مؤشر على وجود حسناوات في المنطقة، ولا مؤشر لأن تلتفت لي أي واحدة منهن، إن وجدت… خصوصاً إذا اكتشفت تلك الحسناء أن طاقيتي كانت تخفي الضماد الذي يستر “ما حدث في النقاش الذي جرى قبل أيام مع عيال قطعة اثنين”).
أقول مازلت أتذكر هذه الصورة، بتفاصيلها الدقيقة السخيفة. وأتذكر صورتي عندما وقفت بزهو، واضعاً ساندويتش الشاورما أمام أنفي، كما يفعل العسكري أثناء تحية السلاح، دلالة على أنني موجود بالقرب من مطعم الجمعية بمفردي، لأثبت للأعداء أنني لا أبالي ولا أخشى الخروج أعزل إلا من شاورما، رغم المجازر التي كانت بيننا.
صور كهذه كانت تنطق بالحياة، وتضج بالطفولة والصخب والخيال، وتكشف لك بوضوح طريقة تفكيرنا، وقتذاك، وحالاتنا النفسية، وبعضاً من شخصياتنا. وكانت تعادل ثروة بالنسبة إلينا. وكنا نتحضر لالتقاطها، ونفكر بطريقة الوقوف المناسبة؛ هل نقف بشموخ، أم بإغواء للحسناوات؟ ونفكر بالتعابير المصاحبة، والأدوات التي ممكن استخدامها.
وأتذكر عندما اصطحب أحد الأصدقاء مفتاح وانيت والده لزوم الصورة، وغبطناه على عظمة الحركة والفكرة، والتقط كل منا صورة بالمفتاح العظيم، وعندما افتقد والده مفتاح وانيته، قرر أن يتفاهم مع ابنه بطريقة قبائل إفريقيا مع السارق، فاختفى الولد عن تجمعاتنا فترة، إلى أن استعاد ملامحه السابقة، قبل حكاية المفتاح.
أقول، كانت للصور قيمة، وكنا نعرف قيمتها جيداً، ونتذكر تفاصيلها، بينما لا أتذكر الآن تفاصيل الصورة التي التقطتها البارحة، ولا أشعر بها. ولا يتذكر أبنائي، ولا غيرهم، صورهم، ولا يشعرون بها، ولا بقيمتها، بعد أن أصبحت مئات بل آلاف الصور في متناول أيديهم. فلم يبرز أحد منهم ربع دينار من جيبه، ليكشف لنا ثراءه، ولا ارتدى أحد منهم طاقيته بطريقة مائلة لتخفي بعض الآثار البارزة في أعلى جبهته، ويغوي بها الصبايا المُتخيلات، ولا أمسك أحدهم بمسبحة، ولا حتى ساندويتشة شاورما.
وأزعم، أو بالأصدق أجزم، أن جيل أبنائنا عارٍ من الذكريات، والنكهة واللذة. وقد فاز بلذة الذكريات من كان من “جيل الطيبين”.