لسنوات طويلة اعتادت الصين أن تقوم بزيادة احتياطياتها من النقد الأجنبي على حساب باقي دول العالم، باعتبارها صاحبة أكبر فائض تجاري عالميا، والذي قدر في 2015 بنحو 600 مليار دولار، وفي منتصف 2014 بلغت احتياطيات الصين حدها الأقصى، حيث قدرت بنحو أربعة تريليونات دولار، نتيجة استمرار البنك المركزي الصيني في شراء العملات الأجنبية، بصفة خاصة الدولار، لكي يحافظ على قيمة الرينمنبي منخفضة لتدعيم تنافسية السلع الصينية في الخارج.
منذ ذلك الوقت أخذت احتياطيات الصين في التراجع نتيجة قيام بنك الشعب الصيني يبيع احتياطياته من النقد الأجنبي للدفاع عن الرينمنبي ضد الانخفاض، مستهدفا قيمة مرتفعة له هذه المرة. وهي عملية يمكن أن توصف بالتقييد الكمي Quantitative tightening وذلك من خلال السماح بخروج رؤوس الأموال وانخفاض عرض النقود بالتبعية، وذلك بعكس سياسات التوسع النقدي. فسابقا كانت الصين تراكم احتياطياتها من أجل صيانة ربط عملتها مع الدولار عند المستويات المستهدفة، فتشتري الدولار لكي تقلل من قيمة الرينمنبي. الصين اليوم تفعل العكس بسبب الضغوط على الرينمنبي نحو التراجع، وهو ما يخفض من حجم ميزانية البنك المركزي.
تتفاوت التقديرات حول حجم رؤوس الأموال التي خرجت من الصين منذ منتصف 2014. فوفقا للبيانات الرسمية قدر حجم رؤوس الأموال التي خرجت من الصين بنحو 675 مليار دولار. من جانب آخر يقدر معهد التمويل الدولي أن قطاع الأعمال يقوم بتمويل عمليات خروج رؤوس الأموال من خلال استخدام وسائل غير قانونية مثل تزييف الفواتير، وبالتالي فإنه يتوقع أن تكون الصين قد فقدت نحو تريليون دولار من احتياطياتها في السنة الماضية وحدها. بل إن عمليات الخروج خلال كانون الثاني (يناير) الماضي قدرت بنحو 113 مليار دولار، وهي مستويات مرتفعة للغاية، ما يوحي بوجود عمليات استنزاف هائلة للاحتياطيات، ويمكن القول إنه إذا استمرت عمليات الخروج على هذا المنوال فإن احتياطيات الصين الحالية لن تصمد طويلا، وهذا ما يثير قلق العالم أجمع اليوم.
في ظل الأوضاع الحالية للصين فإن العالم يتعرض اليوم لقوتين متعارضتين تؤثران في نموه. ففي أوروبا واليابان يلعب التوسع النقدي دورا في تعزيز النمو بهدف الخروج من الكساد، يواجه في المقابل عمليات تقييد كمي في الصين، وتراجع مستويات النشاط في الدول الناشئة الأخرى وكذلك تراجع أصول الصناديق السيادية، التي تمارس دورا سلبيا على النمو في العالم.
غير أنه من الواضح أن الأثر الصافي لهاتين القوتين في النمو العالمي سالب. فعمليات التقييد الكمي التي تتم من الصين بهدف وقف خروج رؤوس الأموال، وعمليات تسييل الاحتياطيات السيادية من النقد الأجنبي من جانب الدول النفطية والناشئة أيضا بهدف حماية عملاتها من التراجع، تقدر بنحو 1.6 تريليون دولار، وهي معدلات ترفع من المخاطر على الأسواق والنمو العالمي. اليوم تقترب الصين من سنتين تقريبا من الخروج المستمر لرؤوس الأموال، حيث من الواضح أن هناك تفضيلا لدى الأفراد وقطاع الأعمال في الاحتفاظ بمدخراتهم خارج الصين.
بصفة خاصة فإن عمليات خروج رؤوس الأموال من الصين تؤثر سلبا في الأسواق العالمية بشكل مباشر، وتتسبب في تراجع أسعار السلع التجارية كالنفط، كما يصاحبها تراجع الثقة في العملة، وهذا التأثير الأخير يتوقع أن تكون له تأثيرات هائلة في الاقتصاد الصيني، حيث من الممكن أن يلجأ الصينيون إلى استبدال الرينمنبي بأي أشياء أخرى تحفظ ثرواتهم، بما فيها اكتناز السلع أو الذهب أو حتى الدولار لحماية أنفسهم ضد تراجع الرينمنبي. نحن نتحدث عن سلوك أكثر من مليار شخص يمكن أن يترتب على أي تحرك من جانبهم ولو محدود تأثيرات خطيرة في العملة.
ربما يكون الاتجاه الطبيعي في مثل هذه الظروف هو السماح للرينمنبي بأن يتحدد وفقا لقوى العرض والطلب، لكن الخوف يتمثل فيما يمكن أن يترتب علي ذلك من آثار في صورة تراجع قيمته ما قد يشعل حربا للعملات ويهز الثقة الداخلية بالعملة.
من جانب آخر، فإن الصين أصبحت الصين اليوم ملتزمة أمام صندوق النقد الدولي بتحرير اليوان، كأحد شروط إدراجه ضمن سلة العملات التي تحدد قيمة وحدات السحب الخاصة. كما أنها تعمل على تدويل استخدام الرينمنبي وهو ما يتطلب تحرير حساب رأس المال، لكن التحرير في ظل هذه الظروف يمكن أن يتسبب في موجات خروج هائلة لرؤوس الأموال إلى الخارج.
لقد أصبحت مشكلة خروج رؤوس الأموال من الصين تتم بصورة سريعة للغاية ومقلقة ليس فقط للصين وإنما للمؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. فقد صرحت منذ أيام كريستين لا جارد رئيسة الصندوق بأن خروج رؤوس الأموال من الصين يرفع من مخاطر النمو في الاقتصاد العالمي.
بالطبع من الممكن أن يتدخل البنك المركزي بسلسلة من الإجراءات للحيلولة دون خروج الأموال، لكن هذه الخطوات ستكون لها تأثيرات سلبية في الاستثمار داخل الصين، ورفع معدلات تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج. أو اضطرار البنك المركزي لتخفيض الرينمنبي. لكنه ومن الواضح أن الصين تستهدف تثبيت الرينمنبي لبعض الوقت، ثم السماح له بالنزول بعد ذلك بصورة تدريجية، مثلما تعودت الصين عند إدارة معدل صرف عملتها في الماضي.
لقد أصبح من الواضح أن خيارات البنك المركزي الصيني للتعامل مع تداعيات هذا الوضع محدودة وقاسية التأثير في الوقت ذاته، وربما يكون الخيار الأقل ضررا في ظل هذه الأوضاع هو السماح باستمرار تآكل الاحتياطيات لفترة يتمكن خلالها من معالجة وضع معدل صرف اليوان.
باختصار فإن الصين، أيقونة النمو الاقتصادي في العالم في العصر الحديث تواجه اليوم حزمة من الأمراض المركبة تلقي بكثير من الشك حول قدرة الاقتصاد الصيني على معالجتها بدءا من تراجع معدلات نموها، وتزايد التوقعات بقيام الصين بخفض قيمة عملتها، في ظل تعثر عمليات التكيف الهيكلي الهادفة للتحول من اقتصاد يعتمد على التصدير إلى اقتصاد يستند أساسا إلى الطلب المحلي، وهو ما يشجع عمليات خروج ضخمة للأموال من الصين.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟