أصيب عمل السلطات العامة بانتكاسة حقيقية ما بعد التحرير، وتعددت صور وأشكال تلك الانتكاسة، لغياب حالة التوازن الفعلي بين السلطات بسبب ممارسات خاطئة، بدأت ثم تكررت ثم تزايدت، وبعدها تفاقمت، حتى وصلت إلى شل حركة هذه السلطات، وتبعاً لها مؤسسات الدولة، وهي انعكاس لحالة عامة أوقفت حال الدولة ومشاريعها.
ومن تلك الانتكاسات؛ تخلي السلطة التنفيذية عن العديد من صلاحياتها؛ تحت هاجس الخوف والمساءلة السياسية من مجلس الأمة، ما علّق مشروعات حيوية للدولة، ومنها تمدد السلطة التشريعية، واقتحامها لأعمال هي من صلب اختصاص الحكومة، سواء في نطاق تسيير مرافق الدولة أو تعيين قيادييها، أو في نطاق اقتراحات بقوانين مالية لا يجوز أن يقترحها غير الحكومة، ومن ذلك تدخل الحكومة المفرط في شؤون المجلس، ومن ذلك الانحراف البيّن بتشكيل لجان التحقيق البرلمانية وإقحامها في ميدان اعمال أشخاص القانون الخاص أو الشركات المملوكة للحكومة؛ تجاوزاً لأحكام الدستور، ومن ذلك التوظيف السياسي الخاطئ؛ الذي حوّل ديوان المحاسبة لجهة تحقيق، خروجاً على نطاق عمله واختصاصه الدستوريين، وأخيراً إقحام ديوان المحاسبة لنفسه في ميادين لا صلة له بها، خصوصاً ما يتعلّق برقابته على أداء الجهات الحكومية، وهو ما سنفصل به في هذه المقالة.
فقد تكررت الأحوال التي يشير فيها الديوان إلى أنه مختص برقابة الأداء، وهو بيت القصيد هنا، فالديوان ليس له اختصاص في ممارسة رقابة على أداء وفاعلية المؤسسات والأجهزة الحكومية، فهي تقع خارج نطاق اختصاصه الدستوري المقرر بالمادة 151 من الدستور، والتي تنص على: «ينشأُ بقانون ديوانٌ للمراقبة المالية يكفل القانون استقلاله، ويكون ملحقاً بمجلس الأمة، ويعاون الحكومة ومجلس الأمة في رقابة تحصيل إيرادات الدولة وإنفاق مصروفاتها في حدود الميزانية، ويقدم الديوان لكل من الحكومة ومجلس الأمة تقريراً سنوياً عن أعماله وملاحظاته».
وواضح من النص الدستوري أن اختصاصه ينحصر في عمل له طبيعة مالية محددة وهي «معاونة مجلس الأمة والحكومة في رقابة تحصيل إيرادات الدولة وإنفاق مصروفاتها»، فهو المحاسب القانوني الخارجي للدولة الذي يراقب مدى سلامة تنفيذ الحكومة وأجهزتها دورها في تحصيل الإيرادات وصرفها للإنفاقات في كافة أوجه عملها كما يقرره القانون رقم 30 لسنة 1964 في المواد «من 5 إلى 25»، ومدى التزامها بذلك وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة بالدستور والقوانين واللوائح. أما غير ذلك من الأعمال، فهي تخرج عن مهمته واختصاصه، وعلى وجه الخصوص رقابته لأداء أعمال المؤسسات والأجهزة الحكومية، والحكم على كفاءة موظفيها وأدائهم، أو إقحام عمله في ميدان السلطة التقديرية للإدارة الحكومية أو الجهات التابعة لها وما تتولاه من مشاريع وأساليب تنفيذها. فهذه تخرج جملة وتفصيلاً عن ميدان اختصاصه، وتدخل أساساً في نطاق عمل واختصاص مجلس الوزراء كما هو مقرر في المواد من 123 إلى 130 من الدستور، تحت رقابة مجلس الأمة السياسية، ورقابة القضاءين الإداري والدستوري كما يرسم ذلك الدستور.
لقد تمكن البعض في مجالس الأمة والحكومات المتعاقبة من ترويج ومنح اختصاصات لديوان المحاسبة بتجاوز جلي لأحكام الدستور، وربما بدوافع وتصفيات سياسية، وهو ما أدى إلى تغيير مسار الديوان عن دوره الرقابي المالي؛ ليتم استخدامه وسيلة لإرهاب المسؤولين أحياناً، وشماعة لوقف المشاريع أو عرقلتها أو إفشالها؛ تحقيقاً- ربما- لمكاسب سياسية وهمية، خلافاً للغاية الدستورية من وجود الديوان، وهو ما انعكس وبالاً على البلد، بما أفشل أغلبية مشاريع الدولة، وشل قدرة الحكومة على اتخاذ القرار والإنجاز. ولنا عودة أخرى للموضوع.