كنا كعرب قبل سايكس بيكو، موعودين من بريطانيا العظمى من خلال مراسلات الشريف حسين بدولة عربية ممتدة وموحّدة بعد سقوط العثمانيين، لكن الوعد لم يتحقّق وجرى بدلاً منه استعمارنا وتقسيم أقاليمنا العربية التي كانت خاضعة في شكل شبه موحّد للدولة العثمانية. ذلك تاريخ مضى، صارت له مائة عام يتطوّر ويتفاعل. الذي حصل في ذلك الزمان، أن محاولات استعمار تركيا من جانب بريطانيا والحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨، فشلت بفضل أتاتورك وسعي الأتراك الى حماية استقلالهم، فبرزت تركيا الموحدة والمستقلة بعد نجاحها في حروب ومعارك ضد اليونان وضد القوات البريطانية والغربية في عشرينات القرن العشرين. من جهة أخرى، لم ينجح استعمار إيران، فبقيت أيضاً دولة كبرى مترامية الأطراف وإن متأثرة في ذلك الزمن بالغرب وبريطانيا. العرب تحديداً (مع استثناءات محدودة كالمملكة العربية السعودية التي لم تُستعمَر) هم من سقطوا في الشباك: استعمار، تقسيم، وإذلال وطني، وفوق ذلك كله احتلال دائم لأراض عربية منذ قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨.
لكن بعد الحقبة الاستعمارية بين الحربين الأولى والثانية وصولاً الى خمسينات القرن العشرين، ساد الاعتقاد بين كثر من العرب بأن الدولة العربية على جزء من الأمة الأوسع ستكون قادرة على صهر كل مواطن في كيان وطني وعلم ونشيد، وأن الدولة العربية الحديثة في إمكانها أن تحافظ على استقلاليتها عن مناطق النفوذ والدول الكبرى. بل اعتقد كثر من العرب أن الدولة العربية الجديدة هي مقدّمة للوحدة.
لكن ما حصل كان العكس تماماً، فبسبب ضعف إمكانات الدولة العربية وصغر حجمها الجغرافي وكونها جزءاً من أمة أكبر، اضطرت لعقد تحالفات مع دول كبرى لحماية وجودها. وسعت الدولة العربية القطرية الى الاعتماد على فئة من الناس (شريحة، طائفة، جماعة، فئة من عائلة، منطقة، إقليم)، بينما استثنت جزئياً أو كلياً فئات أخرى بهدف جعل مشروع الدولة مشروعاً قابلاً للاستمرار في ظل سياسة احتكار السلطة.
بعد مرور مائة عام على سايكس بيكو وعقود طويلة على نشوء الدول العربية الحديثة واستقلالها، يقف العرب أمام تراجع طريقتهم ودولتهم القطرية وتفكّك مجتمعها إلى فئات وقبائل وطوائف وجماعات ومناطق. تلك الدولة العربية بوضعها الراهن غير قادرة على إنشاء برازيل واحدة، ولا هند واحدة ولا ربع صين أو ثلث كوريا، وهي دون تركيا وإيران بمراحل، بل ما زالت الدولة العربية مهمومة بأمور تجاوزتها معظم شعوب العالم. مع الوقت، وفي معظم الحالات، أصبحنا كعرب في محطة انتظار بائسة ننتظر كارثة أو أعجوبة.
لو أخذنا مصر على سبيل المثل، فهي كانت دولة واحدة مع السودان ضمن الدولة العثمانية ثم لفترات طويلة قبل أن تفصلهما بريطانيا التي احتلت مصر عام 1882. ومنذ استقلال مصر ومجيء عبدالناصر عام ١٩٥٢، لم تسعَ مصر الى استعادة تلك الوحدة وذلك العمق، وهذا أضاع فرصة تاريخية لبناء دولة قوية ممتدة تتمتّع بقدرات في العمق الأفريقي كما العربي. ربما لو فعلت ذلك لكانت مكانتها حول مياه النيل مختلفة، ولكانت مصر في وحدة مع السودان قادرة على أن تكون شيئاً آخر.
ويسجّل حتى الآن، أن أكبر فشل للدولة العربية القطرية، هو غياب الحد الأدنى من مفاهيم التوازن بين قوى المجتمع، بما فيها أسس المشاركة والحريات والتعبير المفتوح والتداول السياسي، فقد أرهق الانشغال بالاحتكار السياسي وغض النظر المصاحب له عن انتشار الفساد، في ظل ضعف الحقوق والحريات، مشروع التنمية العربية. غياب التوازنات والحريات ساهم ليس فقط في تفتيت الشعب، بل في نزاعات بين النخب الحاكمة وجعل الصراع بينها وبين أجزاء مهمة من مجتمعاتها بلا إطار ونظام. لهذا، فعندما وقعت الثورات العربية اهتزت الدولة العربية.
ربما يمكنني أن أعزو موقف كثير من النخب العربية ضد الحريات والتعبير، الى حالة من حالات التتلمذ على فكر مستمد من تاريخ طويل في اعتبار الحكم احتكاراً لفرد هو فرعون أو خليفة في دولة عباسية أم أموية أو حتى إخشيدية وفاطمية، بل يمكن الجزم بأن نخب المستقبل ستكون مختلفة وستتعلّم من المرحلة الراهنة، فالعالم الأوروبي، على سبيل المثل، لم يكن سريعاً في استيعاب مكانة الحريات وحقوق الإنسان والثقافة المفتوحة في حماية الاستقرار والتنمية. بل كان هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا آخر من حاولا العودة الى الاستبداد في القارة الأوروبية. اعتقاد النخب العربية أنها وصلت الى المعادلة النهائية: نحن أم التطرف، ولي الأمر أم خراب العمران، في ظل عدم الالتفات الى ما هو بين التطرف والحكم، والذي يسبّب التطرف في الإساس، ساهم في تدمير البنيان العربي.
لم يكن غياب الحرية هو السبب الوحيد لاهتزاز الدولة العربية، بل ستكتشف الدول العربية أن كل دولة منها ستكون جزءاً من إقليم واسع يحمل ذات اللغة والتراث القديم والتاريخ المشترك الروحي والديني والسياسي، وأن هذا سيكون جزءاً من العبء الإضافي، بخاصة أن الإقليم يمتلك كثيراً من الصفات المشتركة، فالنسيج الاجتماعي حمل معه الامتدادات العابرة للدول ذاتها. لهذا، سيشكل التشابه النسبي بين مجتمعات الدول العربية التي لديها حدود مع بعضها البعض، عنصر توتر وهشاشة في علاقة كل دولة عربية بالدولة العربية الأخرى التي تشبهها. فكل دولة لديها مشكلة حدود مع جارتها، وكل دولة ستخشى من حركات سياسية ناتجة من مجتمع الدولة الجارة ومفكّريها، إضافة الى الخوف من مواطنين يتبنون مواقف الدولة الجارة. ستكتشف كل دولة عربية أن كتاباً في مصر مثل «معالم في الطريق»، أو مواجهة في سورية أو لبنان أو فلسطين، قادرة على أن تلهب حركات سياسية في طول العالم العربي وعرضه.
لهذا، فإن أحد أسباب اهتزاز الإقليم العربي والعالم الغربي عند بروز «داعش»، يتعلّق بقدرة هذا التنظيم على تغيير قواعد اللعبة الإقليمية بنسب أعلى بكثير من دمويتها، فسياسة النظام السوري والجماعات التي تهاجم مناطق «الدولة الإسلامية» في الجانب العراقي لا تقل دموية عن «داعش»، لكن مشكلة «داعش» في الأساس سياسية: فهو غيّر قواعد الحدود التي رسمها سايكس بيكو في العراق وسورية، وهو بالتالي هدّد حدود دول أخرى وقتل أوروبيين وغربيين لا يجوز قتلهم، وفعل ذلك بأسلوب درامي الهدف منه جرّ الجميع الى حرب مفتوحة.
من هنا ركاكة الوضع العربي. فالدولة القطرية تحتمي بالهروب الى الأمام بمنع الحريات، حتى تلك التي لا يمكن منعها، ستدخل في حروب، ستتورط في الثورة المضادة، ستتعمق في النزاع الطائفي، ستستنزف ما تبقى من الوضع الإقليمي انطلاقاً من إمكان إنهاء ملف الإصلاح والحريات. تناقض السياسات العربية والخليجية تجاه كل وضع عربي يحيط بنا، ساهم في المشكلة في الوقت نفسه، فهذه السياسات أضاعت فرصاً كبيرة وأوصلت الوضع العربي الى ما هو عليه الآن من حروب واستنزاف جديد.
العرب أمام خيارات صعبة، لكن التاريخ لا ينتهي، وهو لن ينهي الأمة العربية وطموحها لتبوؤ مكانة بين الأمم والشعوب. فسلسلة الحروب الراهنة في إمكانها أن تجرّنا نحو سلسلة أخرى من الحروب الأصعب، وكل حرب تنتج من أخطاء الزمن الذي سبقها. العرب في حاجة الى إعادة نظر في طريقهم الراهن، في طريق دولهم وأنظمتهم السياسية بل ومجتمعاتهم. هم في حاجة ليس فقط الى الإصلاح الذاتي، فهذا قد لا ينجح إذا ظلّ محصوراً في دولة عربية واحدة أو دولتين، بل الى بلورة مشروع عربي أوسع للإصلاح والتنوير له قواعد جماهيرية وسياسية. محاولات التداخل العربي الراهنة لا تتجاوز التنسيق الأمني والعسكري الموقت، وهذا نوع من التداخل الرسمي المعزول جماهيرياً يتواجه مع المعبّرين عن آرائهم والناقدين بل والإصلاحيين أكثر مما يتواجه مع حاملي السلاح والإرهابيين، وهو لهذا سيساهم في مزيد من الاستنزاف العربي والتآكل. لا بد من مشروع عربي يتبنى أطروحة العدالة الاجتماعية والتنوع والحريات والأنسنة والديموقراطية ومبادئ التداخل العربي العربي. فلا نهضة بلا أنسنة وحريات وحقوق، ولا مستقبل بلا تداخل عربي – عربي ينهي التشرذم الناتج من الاحتكار السياسي والاستئثار الهرمي.