استمرت عملية سرقة مؤسسة التأمينات قرابة العقود الثلاثة، أدار فيها المتهم، غير المدان، منفردا تقريبا، استثمارات مالية بعشرات المليارات. وتمكن حسبما يقال من التحكم في اين وكيف تستثمر مليارات المتقاعدين. وأباح لنفسه حق المساهمة في الشركات على هواه، والدخول في سوق المشتقات مضاربا، دون اكتراث للمخاطر، ولولا إصرار رجل واحد على كشف مخالفاته، لبقيت المسألة تتراوح بين كتابنا وكتابكم!
عملية السرقة هذه ليست الأولى، ولن تكون «الأخيرة»، ولكن فترة السكوت عنها كانت الأطول. وبالرغم من ضخامة المبالغ المسروقة، التي يقال انها بحدود الملياري دولار، ووجود قانون حماية المال العام، ولجنة مختصة به في مجلس الأمة، وبالرغم من أن قانون إنشاء التأمينات يفرض على مديرها حدا أدنى من الرقابة، إضافة الى رقابة ديوان المحاسبة ورقابة مجلس إدارة التأمينات على أعمال المدير، هذا بخلاف سلطة وزير المالية، ووجود لجان متخصصة في المؤسسة نفسها تهتم بالاستثمار، وهيمنة مجلس الوزراء على كل حركة في الدولة، لكن «المتهم» تمكن، بالرغم من كل ذلك، من تجاوزهم جميعا والعمل بحرية قبل ان ينكشف أمره، وكل ذلك بفضل مواطن واحد، أصر، مخاطرا بحياته، على متابعة القضية وإيصالها الى القضاء، وما عناه ذلك من كلفة مالية عالية وجهد كبير. وأعتقد أن لولاه، ولولا انخفاض دخل الدولة من النفط، لاستمر تجاهل موضوع الاختلاسات إلى الأبد.
وبالتالي من المهم هنا التساؤل: أين كان مجلس إدارة المؤسسة من عمليات المضاربة التي قام بها المدير العام؟ ولماذا لم تلتفت جهة لتحذيرات فهد الراشد، وتقارير ديوان المحاسبة؟ ولماذا تقاعس مجلس الوزراء ومجالس الأمة السابقة عن القيام بدورها،أو على الأقل معالجة الخلل المحاسبي والرقابي في المؤسسة لتقليل حجم السرقات مستقبلا؟ ولماذا لم يتبرع أحد من لجنة الاستثمار في المؤسسة بالوقوف إلى جانب السيد الراشد، عضو اللجنة، وتركه وربه ليحاربا؟ وأين كان نواب ما يسمى بالأغلبية المعارضة من هذه السرقات، وهم الذين طالما تباكوا على أمور اقل أهمية بكثير؟
إن المشكلة ليست فقط في طبيعة الجريمة، بل في ذلك العرف الحكومي السائد الذي يصر على تجاهل جرائم البعض، والاستقواء على عيوب البعض الآخر. فسرقة التأمينات ستتكرر بشكل أو بآخر، وبصرف النظر عما ستنتهي اليه هذه القضية، لكننا حتما لن نتعلم منها شيئا، ولن تقوم جهة بسد الثغرات التي ينفذ منها المحتالون عادة، ولن يحاسب من تسبب في تسهيل السرقة، وبخاصة وزراء المالية، للسنوات الخمس الماضية، على الأقل، ومن الصعب جدا كشف من تواطأ مع المتهم، وهم لا شك كثر!
وفي هذه المناسبة لا يسعنا إلا أن نتذكر، بعرفان وامتنان، رجالا كبارا من أمثال حمد الجوعان، وكيف سرق مجرمون أحلامه، بعد أن سرقوا عافيته!