“فساد البلدية ماتشيله البعارين”… كلمات منسوبة منذ سنوات طويلة لصاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد، حفظه الله، وقد ذهبت مثلاً بين الناس، للاستدلال على الحالة المستشرية للفساد في البلاد كلها، وليس في البلدية فحسب. ومن غير المعلوم إن كانت بعارين البلدية مازالت على وضعها أم إن حمولتها في ازدياد أم في نقصان؟
ولربما، من هذا المنطلق استعجلت الحكومة إصدار قانون مكافحة الفساد كقانون ضرورة، وأنشأت هيئته، والتي كانت بداياتها مشجعة، لتقوم المحكمة الدستورية بإلغائها استناداً إلى أن القانون لم يكن مستعجلاً. ونتج عن ذلك فراغ تشريعي للمسؤولين الذين رفضوا تقديم بيانات ذممهم المالية، وهي مسائل مكررة في “أزمة المناخ” و”فواتير الكهرباء” حتى صارت ثقافة مقبولة، وسائدة. تقدمت الحكومة بقانون جديد لم يتم فيه تعديل نواقص القانون الملغى، وتضمن إضافات سلبية للقانون الذي كانت قد أصدرته كقانون ضرورة، علماً أنها كانت قد دعت لتأجيل التصويت على القانون انتظاراً لحكم المحكمة الدستورية.
ويبدو أن استعجال الحكومة لإصدار قانون مكافحة الفساد لم يكن “صافي النية”، في الحالتين، الأولى كقانون ضرورة، فتلغيه المحكمة الدستورية، والثانية في إصدار قانون جديد يعوق عمل الهيئة، ولا يمنحها استقلالية.
تكمن خطورة الفساد في أنه يهدد الأمن الوطني للبلاد، ويضرب أركان العدالة في المجتمع، وينتهك حقوق الإنسان، ويزرع التفرقة والتمييز بين أفراد المجتمع، ويصيب الإدارة الحكومية في مقتل، وبالتالي فهو جريمة مركبة متعددة الأضلاع. ومع فداحته فإنه يمكن التغلب عليه، وتحويل معركته كرافعة لثقة الإنسان بمحيطه، وقصص النجاح في مكافحة الفساد كثيرة، ليتنا نتعلم منها.
كان الفساد ضارباً ومنتشراً وناخراً في جسد “هونغ كونغ”، ولم يكن أحد يتخيل إمكانية تراجعه، دع عنك القضاء عليه، وصار جزءاً أساسياً من الثقافة السياسية والاجتماعية، وصارت البلاد تدار بالفساد. حتى تشكلت إرادة سياسية جادة، ليس انطلاقاً من شعارات إنشائية، بل من أن القضاء عليه صار مسألة وجود. وهكذا بعد خمس سنوات من إنشاء هيئة مكافحة الفساد تراجعت معدلاته بشكل ملحوظ، وأشادت بسجلها المنظمات الدولية المتخصصة، واستعادت الحكومة تدريجياً ثقة كانت مفقودة.
وفي بريطانيا قبل سنتين تقريباً، ما إن تم الكشف عن فضيحة تلاعب نواب البرلمان بمخصصات مالية وتعيينات سكرتاريتهم، حتى تمت محاسبتهم وتعديل اللوائح التي سمحت بتلك التجاوزات، وقاموا بإرجاع الأموال محل الشبهة، علماً أن المبالغ لم تتجاوز بضعة آلاف الجنيهات، أما عندنا فالله المستعان. وفي الولايات المتحدة أطلقت الحكومة الحالية برنامج “ليكس أميركانا” لملاحقة المتهربين من الضرائب، وضغطت على البنوك السويسرية لكشف بيانات المواطنين الأمريكان المتهربين، وحتى الآن دخل ضمن البرنامج 75 مصرفاً سويسرياً وستتم ملاحقة الفاسدين الأمريكان المتهربين من الضرائب، أينما ذهبوا.
القصد، الفساد موجود في كل بلد، إلا أن الفرق هو أن البلاد الحية المعنية بأمنها واستقرارها ومستقبلها، تتحرك بجدية لمكافحته، أما البلاد البائسة، التي لا يعنيها استقرارها، فتتعامل مع الفساد المستشري وثقافته الراسخة على أنه جزء من “عاداتنا وتقاليدنا”، فيبقى الفساد ويندثر الوطن.