ثمة صفحات لا تُقلب. لا يقلبها الإنسان، أو لا يستطيع قلبها. بعضها حزين، وبعضها مضحك. بعضها سخيف، وبعضها عميق، لكنها كلها عصية على النسيان والطي والقلب.
أول مقالة كتبتها، والشهرة الفورية التي توقعتها، بمجرد خروجي إلى الشارع، صفحة لا يمكن قلبها أو تمزيقها من دفتر الذاكرة. انتقالي إلى الصفحة الأخيرة بعد ثمانية أشهر من الكتابة في الصفحة الداخلية، وأول عرض للكتابة في صحيفة أخرى، غير تلك التي كنت أكتب فيها، صفحة من ذاكرتي لا تُقلَب. وفاة والدي، رحمه الله، ودموعي التي لم تنهمر إلا بعد أكثر من نصف يوم، صفحة لا تُقلب.
وإذا كانت هذه الأحداث التي ذكرتها، صفحات حاسمة في كتابي، فإن غيرها كانت صفحات خفيفة ضاحكة لم تغيّر شيئاً في حياتي، لكنها علقت بالذاكرة، مثل “الثوب الأحمر” الذي تلقيته هدية من سيدة كويتية، بعدما نشرت في تلك السنة مقالة ساخرة عن نية الحكومة تكديس الشعب على أبواب المستشفيات، ما سيضطرني إلى ارتداء الثوب الأحمر، ليسهل تمييزي من بين الجموع، فتلقيت هدية من إحدى القارئات عبارة عن ثوب أحمر، لا يجرؤ حتى الفنان الإماراتي عبدالله بالخير على ارتدائه، خصوصاً أن مقاسه يصل إلى نصف ساقي، ونصف ذراعي. صحيح أن الثوب الأحمر كان مصحوباً بهدية في غلاف، لكنني نسيت الآن الهدية، لا أتذكر ماهيتها، طويت صفحتها. أتذكر فقط الثوب الأحمر.
اليوم الذي تقدمت فيه بطلب قبول استقالتي من الجيش الكويتي، وفحوى حديثي مع نائب رئيس الأركان حينذاك، الذي أصبح وزيراً للدفاع لاحقاً، الشيخ أحمد الخالد الصباح، وكيف أقنعني بأن الانتقال من الجيش الذي تكفل بتدريسنا وتدريبنا، نذالة فاخرة، توجب الخجل وجلد الذات.
بعض الأحداث والأحاديث التي كانت تتم بيننا في الكتيبة، على الحدود العراقية أثناء حكم صدام، لا تُنسى، ولا تُقلَب صفحتها، رغم أنها مجرد ضحكات و”سوالف” عادية.
بعض المواقف أثناء قيامنا بتدريب المتطوعين المدنيين في اللحظات الحرجة، لا تُنسى. غناء ذلك العسكري بصوت عال أثناء تقدمنا لمواجهة متسللين، لا يُنسى. “رقصة العرضة”، أو “لعبة العرضة”، ونحن على الحدود، بعد فوز منتخب الكويت ببطولة الخليج، والأحداث التي صاحبت ذلك، لا تُنسى.
صفحات في كتاب كل منا لا يُمكن أن تُقلب، بكل ما تحويه من جمال وأحزان وضحكات ووجوم، إنما المؤلم في كتابي، أقصد كتاب حياتي، هو أنه اكتفى، أو هكذا يبدو لي. لم يعد يقبل صفحات جديدة من النوع الذي لا يُقلب.
خلاص… كل الصفحات الجديدة تُقلب بسرعة هائلة، ولا أدري لماذا؟