الصفقة التي أبرمت بين جبهة النصرة في سورية والحكومة اللبنانية لتحرير عدد من الجنود اللبنانيين في مقابل الإفراج عن مجموعة من منتسبي تلك الجماعة الإرهابية أخذت بعداً إعلامياً مبالغاً فيه، خصوصاً في بعض الأوساط العربية، الأمر الذي قد يكشف بشكل موثق الدور الرسمي لحكومات وأجهزة مخابرات إقليمية في دعم ورعاية ومباركة أمثال هؤلاء المرتزقة من التكفيريين والقتلة ممن جيء بهم من مختلف أنحاء العالم كأداة من أدوات الصراع في الشرق الأوسط.
محاولات تلميع هذه الجماعة الإرهابية والتغطية على قبيح أفعالها تمهيداً لإخراجها من قائمة الإرهاب الأممية كارثة أخرى من شأنها العودة إلى المربع الأول، وتكرار لجريمة خلق جماعة المجاهدين على يد الأميركيين في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي بذريعة محاربة الجيش السوفياتي، فكانت النواة التي فرّخت كل الجماعات الإرهابية الحالية التي تعبث بأمن الكثير من الدول العربية، وانتقلت إلى إفريقيا، بل قلب أوروبا.
التركيز الدولي منصبّ اليوم على “داعش” الذي بات ينسب إلى نفسه كل العمليات الإرهابية في العالم، لكن التفرد بداعش بالتأكيد يؤدي إلى استقواء الجماعات الإرهابية الأخرى التي كانت في الأصل الأم الفكرية والجهادية له، وقد تكون بعض الحكومات قد شارفت على الإفلاس سياسياً وميدانياً في سورية والعراق، ولذلك نجدها تستميت على إنقاذ التنظيمات الأخرى، ومن أهمها جبهة النصرة كقوى مؤثرة في الميزان العسكري، ولكنها سوف تعضّ أنامل الندم مستقبلاً عندما يشتد عود هذه الجماعات، وتنقلب على أولياء نعمتها لتنادي بدولتها الخاصة كتجربة طالبان في أفغانستان، ومثال “داعش” في العراق وسورية، وحالة الثوار في ليبيا أو ما يحدث الآن في اليمن على يد “القاعدة”!
“النصرة” التي يراد تلميعها اليوم كمعارضة معتدلة ضد النظام السوري نزحت من أفغانستان بقيادات من المرتزقة الأجانب تحمل كنى وألقاباً وهمية، وتحمل العقيدة التكفيرية نفسها لكل البشر، وتنادي بدولة الخلافة الخاصة بها، وهي التي ابتدعت جرائم الذبح وقطع الرؤوس ومضغ الأحشاء البشرية وسبي النساء ونهب الأموال، ومنها انشق تنظيم “داعش” بسبب الصراع على تقسيم الغنائم والمناصب فقط!
لذلك فإن حالة الاستنفار لإخراج النصرة من دائرة الإرهاب نوع من الانتحار السياسي المؤجل للحكومات وأجهزتها الاستخباراتية الداعمة لها، لأن بقاءها في الحواضن السياسية الرسمية سيساهم قطعاً في رعاية فكرها المتطرف وجمع الأموال وإعادة هيكلتها لمراحل تاريخية قادمة.
لو كانت بعض الحكومات العربية تدرك هذا الخطر الأزلي أو تخشى الله في مستقبل شعوبها لكان حرياً بها أن توجه المليارات من الأموال العامة وجهود أجهزة دولها نحو تعزيز الاستقرار عبر قنوات المشاركة الشعبية، ونشر ثقافة التسامح والاستثمار في البشر، لإعطاء صورة نموذجية للعروبة والإسلام أمام الرأي العام العالمي، بدلاً من استبدال جماعة إرهابية بأخرى أكثر إرهاباً وخطورة، فالإرهاب يبقى في النهاية ملة واحدة!