يدفع التنافر في المشهد العربي نحو المزيد منه وذلك لأن العالم العربي لم ينجح في التقاط البعد الحقيقي والتاريخي لمشهد عام ٢٠١١، ففي تلك اللحظة التاريخية سقطت أجزاء أساسية من النظام العربي في وحل الارتباك في التعامل مع دروس التاريخ. بل تحولت العدالة إلى الضحية الأولى لمحاولات النظام العربي منذ ٢٠١١ العودة بعقارب الساعة للوراء. إن نقص العدالة العربية هو الذي فجر العالم العربي والذي لولاه لما كانت هناك ثورات وانتفاضات. لقد دفعت حالة اللاعدالة العربية بمنظمة «الإسكوا» في الشهور القليلة الماضية، وهي المنظمة التابعة للأمم المتحدة والتي تعمل في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي، إلى العمل على كتابة تقرير موسع سينشر في العام ٢٠١٦ عن حالة اللاعدالة في الدول العربية. ما سيكشفه التقرير سيوضح مدى عمق المأزق، فالدول العربية في أدنى الأنظمة السياسية في تطبيق العدالة وذلك بسبب سيطرة الأجهزة التنفيذية غير المسائلة على كل السلطات وبسبب الفساد وسيطرة المصالح الضيقة على قيم العدالة وبسبب ضعف وغياب الحريات. في التقرير تأكيد على أن اللاعدالة في الوضع العربي هي نتاج ضعف مزمن في تعامل النخب مع الأبعاد السياسية والقانونية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية للعدالة. لا يزال النظام العربي سائراً نحو هاوية سحيقة إلا إذا مارس لحظة صدق مع نفسه وبدأ بتغيير المسار.
اللاعدالة تعبر عن نفسها في محدودية قدرة المواطنين بكل فئاتهم على التأثير في النظام السياسي بما في ذلك انتخاب القادة التنفيذيين وحق نقدهم بل تغييرهم بوسائل ديموقراطية ودستورية. حالة اللاعدالة العربية تنعكس في ضعف الضمانات القانونية وفي استئثار ١٠ في المئة من السكان بمقدرات ٨٠ في المئة من البلاد، وفي إمتلاك٨٠ في المئة من السكان أقل من ١٠ في المئة من المقدرات وفي تراجع حظوظ الطبقات الوسطى. وتعبر اللاعدالة عن نفسها من خلال تداخل رأس المال الخاص مع الحكومي، وتراجع فرص العمل والتعليم والعلاج والمعاملة العادلة أمام الدولة. وتتراجع العدالة عند التعامل السيء مع من ينتمي إلى دين مختلف أو مذهب آخر أو أقلية أو رأي مغاير وشريحة ضعيفة.
وتعبر اللاعدالة عن نفسها مع تزايد حالات تجريد الأنظمة لمواطنين من حقوقهم بين يوم وليلة وحالات إصدار أحكام تعسفية في السجن والإعدام لسياسيين لم يمارسوا عنفاً. إن قيام بعض الأنظمة، كما هو حاصل في سورية، بممارسة تدمير ممنهج للمدن الآهلة بالسكان، يعكس طريقة في التفكير (وإن بنسب مختلفة) تتجاوز الحالة السورية. وعلى رغم التفاوت بين دولة وأخرى ومجتمع وآخر في العالم العربي إلا أن النظام العربي فقد بسبب عدم قيامه بالتجديد ثم بسبب التصادم مع الأوضاع الشعبية النامية الكثير من مصداقيته وأخلاقيته.
الأزمة العربية أخلاقية بامتياز، فالقوي فيها لا يرى معاناة الضعيف، وصاحب الامتيازات لا يعترف بمطالب الإصلاح، والتراتبية والفوقية بل والأسلوب المستمد من الزمن القديم في التعامل مع الرعية لا يزال يعشش في عقول النخبة العربية. في النظام العربي لا مكان إلا للأقوياء والذين يفرضون رأيهم وأسلوبهم حتى لو سقط البناء بمن فيه، ولهذا لا مكان في معظم الحالات العربية إلا لمعارضات عنيفة لا ترى هي الأخرى مكاناً لغيرها. إن هذا الوضع العربي يعيد إنتاج الحروب والنزاعات.
كان السكوت في السابق من عادة المجتمعات العربية التي وثقت بقدرة النخب على القيادة، لكن تكلس النظام العربي وعدم تجديده في ظل عدم التعامل مع نقص العدالة رفع من نسب الأزمات. في السابق كان المجتمع يعتبر أن بالإمكان تحقيق العدالة من خلال الالتماس والثقة بالوعود، إلا أن الأجيال الجديدة تتوقع علاقات مختلفة مع قادتها الحاليين والمستقبليين. فبسبب أحداث السنوات القليلة الماضية هناك عربي مختلف يريد المساواة مع الآخرين ويسعى للعدالة بصفتها حقاً مكتسباً مع الولادة. المواطن الجديد يبحث عن حلول لأزمة العدالة والتعبير والحريات والكرامة العربية في الثقافة والسياسة والاقتصاد وفي سلوك النخب والقادة.
وتستمر حالة اللاعدالة العربية في الكثير من الأوضاع ضمن غطاء بل وتوافق دولي وإقليمي، وهذا يعني أن معظم الدول العربية ضعيفة ومهزوزة أمام الخارج، فهناك من اللاعدالة ونقص الحريات وضعف المساءلة والعقد الاجتماعي في الأوضاع العربية الذاتية ما يجعل من تفجير الأوضاع العربية عملية لا تتطلب سوى رفع الغطاء الدولي الضامن. المشهد السوري كما العراقي كلاهما نموذج لما نقصد. الوضع العربي ضعيف في مناعته الذاتية أمام إسرائيل وأمام الغرب وأمام القوى الخارجية، كما أنه لا يمتلك مناعة ذاتية داخلية.
وعندما نعود إلى الوراء باحثين في تاريخنا العربي والإسلامي المديد نجد أن مشهد العدالة واللاعدالة أساسي في الصراع التاريخي بين فئات وخلفاء وجماعات ومعارضين ومؤيدين. وقع كل هذا في زمن الرسالة الأولى (من مكة إلى المدينة) وفي زمن الخلفاء الراشدين وفي زمن الدولة الأموية ثم العباسية. ثورات التاريخ الإسلامي كثيرة، وقد حركتها قيم العدالة في مواجهة الظلم بأكثر مما نتوقع. قراءة سريعة لكتابين قيمين تعطي القارئ الكثير عن هذا التاريخ الكبير: علي الوردي وكتابه «وعاظ السلاطين»، ومهدي عامل وكتابه «شخصيات غير قلقة في الإسلام» يكشفان للقارئ في سير عديدة كسيرة سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري والعديد من الشعراء والفلاسفة بل والفقهاء والأئمة من السنّة والشيعة مدى تعمق قيم العدالة بصفتها محركاً أساسياً لصراعات كبرى في الإسلام. لقد أدى الصراع من أجل العدالة في الحالة الإسلامية لعشرات الانتفاضات. الصراع بين روح العدالة وسلوك الامتيازات والطبقية والتفرقة بل والعنصرية لم يتوقف أبداً في تاريخ الإسلام. بل بالإمكان تقديم قراءة لتاريخ الإسلام والدولة الإسلامية من منظور صراع العدالة واللاعدالة. هذه كلها كانت من مسببات سقوط ممالك، على رغم قيمتها التاريخية، كالأموية والعباسية والفاطمية وغيرها.
لقد تغيرت المجتمعات لأسباب تتعلق بتعميم المعرفة والتعليم وقيم الحرية والمساواة وحقوق المواطنة، بل وقع التغيير في العقول بسبب الانفتاح على تجارب أخرى في العالم طبقت نماذج أكثر انفتاحاً مع الحقوق والواجبات. لقد تغير كل شيء لأن المواطن يتوقع إعلاء أكبر لقيم العدالة التي تؤمن له قيم الكرامة والثقة بالنفس وبالمستقبل. البحث عن العدالة حالة لن تتوقف، إذ ستزحف باتجاهها الحركات الإسلامية كما الحركات الحقوقية وبعض النخب الأكثر صدقاً مع نفسها ومجتمعها. إن بناء التوازن والألفة بين مكونات المجتمع في ظل العدالة سيحرك المستقبل كما لم يحركه من قبل.