طلبت نورة .ح صندوق شاي من الخارج، دفعت ستين ديناراً كثمن للطلبية، عند وصول الصندوق ابتدأت نورة مشواراً طويلاً بالدفع للجمارك، تحت مسميات مختلفة، مرة طلبوا منها 25 ديناراً قيمة فحص الشاي، ثم طلبوا منها أن تدفع رسوماً لا تعرف نوعها ولا أصلها، وتراكمت طلبات الجماعة، كل يوم طلب، وكل يوم موظف جديد يجد سبباً لأساس المطالبة ليتم الإفراج عن “صفقة العمر”، صفقة العمر لا تتجاوز قيمتها الستين ديناراً، وانتهت نورة بدفع مئة وستين ديناراً للجماعة… هذه مجرد حكاية من ملفات دولة أساطيل الموظف العام، ومسلسل الفساد الرسمي، يبدأ هذا الفساد بالشخص الكبير في صفقات كبرى مفصلة على قد المقاس المناسب مرة ومرات، أو يقوم الكبير بعمل الثقب المناسب في عقود الدولة أو ميزانيات إداراتها وغير ذلك من ألوان أبواب الرزق… ويتمدد الفساد من عالم السياسة لعوالم الإدارة أو العكس، الموظف المسؤول، وعادة هو من المقيمين، يكون بالواجهة، والأرجح أن يكون له سند حماية من حملة الجنسية المباركة في دولة من صادها بالأول عشى عياله… بارك الله فيكم، وفي قوانينكم.
“… أثر ذلك مدمر، تمويل تلك الجيوش من فرسان المكاتب يكون بالقضم من الميزانيات الوطنية، وتتحول بالتالي الكفاءات الفنية (بالأصح تفضل) للعمل بالقطاع الحكومي بدلاً من الخاص. في بعض دول الخليج الغنية على سبيل المثال، أكثر من نصف المواطنين يعملون في الوظائف الحكومية، حسب إحصائيات البنك الدولي، هذه أعلى نسبة في العالم… هؤلاء الموظفون لا يعملون في الأغلب، كما تقول هالة، الأستاذة بجامعة القاهرة. الترقي في الوظيفة يتم وفق قواعد المحسوبيات والعلاقات الاجتماعية وليس حسب معايير الكفاءة… الغياب عن العمل، يعد أمراً عادياً، فلا يوجد جهاز رقابي يقيم الأداء ويراقب الإنتاجية…”.
الفقرة السابقة التي بين قوسين كانت ترجمة مبتسرة لمقال في الإيكونومست، بعنوان “ايوه يعني نعم”، يتحدث عن أزمة البيروقراطية والفساد في العالم العربي، وذكرت أمس الأول، أن البيروقراطية هي القانون، أو شقه الإجرائي، فحتى تحصل، مثلاً، على ترخيص بناء أو إقامة مشروع ما، يتعين عليك أن تتبع إجراءات معينة، تكون وفق اللائحة أو القانون أو الأمر الإداري، وحين تبدأ بالإجراءات القانونية المطلوبة تنهال عليك فواتير ثمن الإجراء المطلوب، بالتالي يصبح هذا القانون ذاته مرآة للفساد حين يتولى أمره فاسدون، أو عاجزون عن استيعابه، أو حين تستغل نصوصه لتحقيق مصلحة خاصة.
الحديث عن ملف الفساد في السياسة والإدارة وإمبراطورية الموظف العام لم يعد مجدياً، فقد أضحت جلود الجماعة غليظة لغياب مؤسسات الرقابة والمحاسبة الجدية وليست الشكلية التي خلقت كواجهات وفترينات جذابة تحجب الحقيقة خلفها، لكن، ومع ذلك، يمكن القول إنه إذا كانت قضايا الفساد الإداري – السياسي من الممكن تحمل حجمها في زمن برميل 120 دولاراً، أي زمن فوائض ميزانيات الهبات والتسكيت، فماذا سيكون عليه الحال يا ترى في الغد القريب مع برميل الثلاثين دولاراً؟ وكيف سنقرأ حكايات “أوراقك ناقصة إلا إذا…”؟ وكيف سيكون شكل دولة الخدمات والرعاية…؟ سنتجرع الكثير والكثير من كأس حكايات “ألف نيلة ونيلة”!