تبلغ المسافة من “جاراوي” إلى “جلكعيو” في إقليم بونتلاند الصومالي حوالي ٢٥٠ كلم، لكنه طريق وعر جداً، حيث استغرق منا ما يزيد على ٤ ساعات. على ضفتي الطريق، تتقافز الغزلان الصغيرة، وتعبر على استحياء أعداد الخنازير البرية، وترعى على جنبيه قطعان لا حدود لها من الأغنام والإبل والبقر، وحشد لا ينتهي من الطيور. هذه الصورة لا يعرفها الناس عن الصومال، ولا في أي جزء منه.
ما يعرفه الناس عن الصومال هو ما وصفته بـ”المرض الصومالي”، حالة احتراب دائم، وضياع كامل للدولة، وتدخل أجنبي مدمر، هو جزء من الحقيقة في جزء من الصومال. أما أغلبية الصومال فليست في حالة احتراب، بل في استقرار غير مشوب بالقلق، لدرجة أن الانتخابات تجرى ويخسر الرئيس ويفوز زعيم المعارضة، ويتولى منصبه دون إطلاق رصاصة واحدة.
بالطبع تتركز ملامح “المرض الصومالي” في الوسط والجنوب بدرجة أساسية، وقد زرتها مرات كثيرة، حين سيطر على مقديشو أمراء الحرب من أمثال موسى سودي وعثمان عاطو وغيرهما، وحين حاولت الحكومة الانتقالية فرض سيطرتها دون جدوى، وحين تولى أمورها “اتحاد المحاكم الإسلامية”، ثم الإطاحة بهم عبر تدخل إثيوبي، إلى أن تم استيعابهم في العملية السياسية، ودخلوا ضمن مفاوضات جيبوتي، إلى الحكم رسمياً. إلا أن حركة “الشباب” رفضت ذلك واستمرت في عملياتها العنفية والإرهابية، إن شئت.
ومع أنه بعد زيارتي الأخيرة لمقديشو الشهر الماضي وقع تفجير انتحاري لفندق راح ضحيته أبرياء، ومع أن مظاهر التسلح مازالت طاغية فإن الأوضاع قد تحسنت كثيراً.
استفحل “المرض الصومالي” عندما تم التفرج على حالة تدمير داخلي له أسبابه الموضوعية والذاتية كما تتم تغذيته من الخارج، من دول الجوار وغير دول الجوار. والآن لدينا على الأقل ٥ دول في المنطقة يتوغل فيها المرض الصومالي، ومازالت الأطراف المعنية ضالعة في رش الملح على الجرح بدلاً من محاولة علاجه، والأبرياء في هذه المسألة قلة للأسف.
لم يأت “داعش” للوجود إلا في إطار “مرض صومالي” ما، فداعش كتنظيم غير قابل للبقاء، إلا بقدر ما تسمح به الأطراف القوية الإقليمية وغير الإقليمية، وما تسمح به ظروف وجود حواضن اجتماعية للتمرد على وضع قائم. خطورة داعش ليست في أنه “تنظيم” “دولة” أو حتى “حركة”، لكن خطورته في كونه فكرة، والأفكار قد تحتاج إلى استخدام القوة حيناً، ولكنها تحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير.
بعد جرائم ١١ سبتمبر ٢٠٠١ في نيويورك، أعلن الرئيس الأميركي حينذاك، “حرباً كونية على الإرهاب”، بدأت بغزو أفغانستان، ثم العراق، وكان مخططاً للقضاء على “محور الشر”، العراق فسورية فإيران، فأين صارت تلك الحرب الكونية على الإرهاب، بل أين أصبح الإرهاب؟ وهل هو في ازدياد أم في نقصان؟