تذكر كيث وايتنغتون (كتاب أوكسفورد للقانون والسياسة) أن هناك فرقاً بين دول تملك دساتير مكتوبة، وأن هذه الدساتير يمكن أن تكون أداة فعالة لضبط الحكومة وتثبت حقوق وحريات الأفراد، لكن على أرض الواقع ليس لهذه الدساتير “روح” ولا حظ لمعظم نصوصها في التطبيق، وبين دول ليس لها دستور، وبكلام أدق، ليس لها دستور مكتوب، ولكنها تحافظ بدقة على المبادئ الدستورية، ومثالها الفذ المملكة المتحدة، لكن كيف يمكن أن نتصور أن بلداً ليس له دستور مكتوب، ومع ذلك يحافظ على المبادئ الدستورية؟!
المبادئ الدستورية تعني هنا “الدستورية” بترجمة لكلمة Constitutionalism، وهي القيم والمبادئ الليبرالية التي تحافظ على حقوق الأفراد في مواجهة الدولة، وهي تتكرس عبر تاريخ ممتد في ثقافة المجتمع، وتراكمت عبر دراسات فقهية لرجال قانون وفلاسفة وأحكام محاكم حتى وصلت إلى الحالة “الدستورية”.
تطورت هذه الحالة الدستورية إلى ما يسمى النظرية المعيارية للدستور عند فقهاء دول القانون العام مثل إنكلترا والولايات المتحدة، الذين لم تكن مهمتهم تفريغ المقررات الدراسية في قاعات المحاضرات بالكليات والجامعات وينتهي دورهم، بل كانوا يتناولون القضايا العامة لحقوق شعوبهم ويدفعون بقوة ونضال متواصل لتكريسها في عالم القانون الدستوري، وهناك دور مماثل تقوم به المحاكم الدستورية التي حقق القضاء فيها القفزة الكبرى نحو تحقيق الحالة الدستورية.
في الولايات المتحدة، التي دائماً يرجع لها كحجر الأساس في النظرية الدستورية عبر أحكام المحكمة العليا في أوائل القرن العشرين، وكانت هناك قفزات في الأحكام القضائية للحد من نفوذ السلطة التنفيذية التي تشمل الرئيس، وتمثلت تلك الأحكام في معارك الصفقة الكبرى التي طرحها الرئيس روزفلت (تقوم على نظرية كينز بتدخل الدولة المباشر في الاقتصاد) أيام الكساد الكبير قبيل الحرب الكونية الثانية، عندما وقفت المحكمة العليا بقضاتها المحافظين ضد الكثير من قرارات الرئيس الإصلاحية، حجتهم المحافظة على المبادئ الديمقراطية، لكن هذا لم يفت من عضد الرئيس الإصلاحي.
القفزة الكبرى كانت عام 1954 بقضية براون ضد مجلس التعليم، وحكمت المحكمة بعدم دستورية ممارسة الفصل بين المواطنين السود والبيض في مدارس الدولة.
لم تكن هناك نصوص دستورية قاطعة تتحدث عن “التمييز العنصري” في المدارس، لكن القضاة التقدميين بالمحكمة تجاوزوا ظاهر النصوص إلى روح الدستور الأميركي، ليقرروا مثل ذلك المبدأ، المعركة لم تنته بهذا الحكم، فقد اشتعلت نارها، فيما بعد، بين القضاة أنفسهم وبين أساتذة القانون في الجامعات، كي تولد تلك النقاشات الثرية ما يسمى النظرية المعيارية Normative theory للدستورية، والتي تعني، باختصار التوفيق، بين حق الأغلبية في التشريع وبين ضمانات حقوق الأفراد، ولو كانوا أقلية، وبتعبير الفقيه “رونالد داوركن” لا شيء يسمو فوق حقوق الأفراد التي يجب أن تتقدم على الأولويات الحكومية، وعلى أنظمة الرعاية للأغلبية السياسية، يريد هذا الفقيه أن يسحب قضية حقوق الأفراد من عالم السياسة المتأرجح لتستقر ثابتة على أرض القانون.
أذكر ما سبق، وفي ذهني الحالة الكويتية، التي تغيب عنها الحالة “الدستورية”، ونحن الآن أمام قضايا سحب الجنسية لعدد من المواطنين، ومصادرة الكثير من حريات التعبير عبر القوانين الأخيرة، أو المشروعات التي تقدمها الحكومة… مع غياب الطرح الجدي من رجال القانون أو جمعياتهم لمثل تلك القضايا… كنا في يوم ما نحلم أن نصل بدستورنا المكتوب إلى “الحالة الدستورية” بتفعيل روح الدستور، وحماية حقوق الأفراد من تغول السلطة، فأصبحنا الآن في وضع “حالي حال”!