البرازيل هي أكبر اقتصادات أمريكا اللاتينية، وإحدى دول مجموعة البريكس، التي تمثل تجمع أهم وأكبر الدول الناشئة في العالم، وهي إحدى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أو ما يطلق عليه نادي الأغنياء في العالم. فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي للبرازيل في 2014 نحو 2.4 تريليون دولار، وهي بهذا الناتج تحتل المركز السابع بين اقتصادات العالم، ومع ذلك يعاني سكان البرازيل سوء توزيع الدخل والثروة، حيث تشير التقديرات إلى أن أغنى 1 في المائة من السكان يسيطرون على نحو 13 في المائة من الدخل، وهي حصة نحو 50 في المائة من السكان تقريبا، كما أن نحو 9 في المائة من سكانها يعيشون بدخل أقل من 1.3 دولار يوميا (أي أقل من خط الفقر العالمي)، أكثر من ذلك فإن نحو 40 في المائة من السكان ليس لديهم حرية الوصول إلى الخدمات الصحية العامة، وتنتشر في البرازيل معدلات الجريمة بصورة واضحة، وتتساوى في ذلك تقريبا مع المكسيك. بالطبع في ظل هذا المناخ لا بد أن تكون البيئة السياسية غير مستقرة، حتى في واحد من أغنى اقتصادات العالم.
البرازيل تواجه اليوم كسادا حادا، حيث يتراجع النمو بمعدل يتوقع أن يصل إلى 3 في المائة هذا العام، وكذلك يتوقع أن يتراجع النمو بمعدل 2 في المائة في 2016. فالبرازيل أيضا أحد ضحايا تراجع النمو في الصين التي تمثل أكبر أسواق صادرات البرازيل. كذلك فإن تراجع النمو في مجموعة الدول الناشئة يزيد المخاوف من أن ينعكس ذلك على النمو في الولايات المتحدة، بل ربما الاقتصاد العالمي برمته، حيث لعبت هذه الدولة دور محرك النمو في العالم في فترة الأزمة الاقتصادية العالمية.
أخطر مشكلات تراجع النمو هو ارتفاع معدلات البطالة التي ارتفعت بالفعل إلى 7.5 في المائة في تموز (يوليو) الماضي مقارنة بـ 4.9 في المائة فقط في العام الماضي، ويتوقع أن تواصل التصاعد إلى 10 في المائة في نهاية العام.
من جانب آخر، من المتوقع أن تسجل المالية العامة للبرازيل عجزا، حتى قبل دفع فوائد الدين (العجز المبدئي)، يصل إلى نحو 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل مرتفع جدا. ارتفاع معدلات البطالة مع ارتفاع العجز المالي يعقد المشكلة، باعتبار أن البرازيل تحتاج إلى أن تنفذ عديدا من الاستثمارات التي تفتح المزيد من فرص العمل. ما يحدث غالبا هو أن الحكومة في ظل هذه الظروف تتبنى برنامجا للتقشف الاقتصادي، وهو ما يجعل من مسألة مواجهة البطالة المتصاعدة أمرا صعبا.
في عام 2011 كان الدولار الأمريكي يساوي نحو 1.6 ريال برازيلي، اليوم الدولار الأمريكي يساوي نحو أربعة ريالات تقريبا، حيث فقدت العملة البرازيلية جانبا كبيرا من قيمتها خلال هذه الفترة القصيرة، ووفقا لمعدلات الصرف لهذا العام فقد الريال نحو 60 في المائة من قيمته أمام الدولار، ومع تزايد الضغوط على العملة، أعلن محافظ البنك المركزي أن احتياطيات البرازيل من العملات الأجنبية تصل إلى 370 مليار دولار، وأنه مستعد لاستخدامها في التوقيت المناسب، وهو ما أعاد الهدوء للأسواق، وانخفض الدولار إلى أقل من أربعة ريالات للدولار. غير أن بعض المراقبين يتشككون في إمكان استمرار هذا التحسن، بل يتوقع البعض الآخر أن يصل الدولار إلى نحو 4.5 ريال. بالطبع يترتب على انخفاض الريال زيادة الضغوط التضخمية في الدولة، ومن المتوقع أن يكون معدل التضخم المحقق الذي يصل إلى نحو 10 في المائة أعلى من المعدلات المستهدفة للتضخم (4.5 في المائة).
كان من المفترض أن يترتب على هذا التراجع في قيمة العملة تحسن الحساب التجاري للبرازيل، لكن المشكلة أن أسواق المواد الأولية، أحد أهم صادرات البرازيل، يتراجع الطلب عليها.
هذا الشهر ظهرت أيضا المؤشرات التي تؤكد تراجع أداء القطاع الصناعي، حيث مازال الرقم القياسي لمديري الشراء في القطاع الصناعي الذي تصدره Markit أقل من 50 منذ شباط (فبراير) الماضي، وهو ما يعكس استمرار التراجع في القطاع الصناعي.
يتكون الرقم القياسي لمديري الشراء في القطاع الصناعي من خمسة مؤشرات هي الطلبات الجديدة، ومستويات المخزون، ومستويات الإنتاج، ومؤشرات تسليم الموردين، وأخيرا مناخ التوظف. عندما تتحسن هذه المؤشرات فإن الرقم القياسي لمديري الشراء يتجاوز حد الـ 50، والعكس عندما تتدهور هذه المؤشرات.
منذ كانون الثاني (يناير) الماضي والمؤشر يتراجع بشكل مستمر من نحو 51 إلى 47 في الشهر الماضي، ووفقا لـ Markit، فإن مؤشرات الطلبات الجديدة والإنتاج في تراجع، كما استمرت أعداد العاملين في التراجع، حيث يقع مديرو المؤسسات الصناعية تحت ضغط الرغبة في ضغط التكاليف نتيجة تراجع الطلب فيلجأون إلى التخلص من العمال، ما يخفض معدلات التوظف في القطاع الصناعي.
ما زاد الطين بلة هو إقدام مؤسسة ستاندارد آند بورز على تخفيض التصنيف الائتماني للدين البرازيلي إلى مستوى السندات غير المرغوب في الاستثمار فيها، أو ما يطلق عليه سندات الخردة Junk Bonds، وهو ما فتح الباب أمام عديد من السيناريوهات المزعجة بالنسبة لاستقرار نمو البرازيل. كان من أسباب التخفيض حدوث نوع من عدم الاتفاق حول مدى حاجة البرازيل إلى برنامج للتقشف، وهو ما أدى إلى القرار المفاجئ للوكالة. المشكلة التي تواجهها البرازيل هي أن هذه المؤسسة للتصنيف الائتماني هي الوحيدة التي صنفت الدين البرازيلي على هذا النحو في الوقت الحالي. بالطبع عندما تقوم مؤسسة أخرى بذلك فإن عمليات التخلص من الدين البرازيلي ستأخذ دفعة قوية. ذلك أن تراجع التصنيف يصحبه ارتفاع علاوة مخاطر الإقراض للدولة، الأمر الذي يجعل عملية اقتراضها مكلفة للغاية، سواء بالنسبة للقطاع العام أو للقطاع الخاص، وبهذا الشكل يكون قد تم إحكام القبضة على الاستثمار الخاص وارتفاع معدلات البطالة. وما يضاعف من تأثير أي خفض إضافي للتصنيف الائتماني لدين البرازيل هو أن نحو خمس هذا الدين مملوك للأجانب.
لقد كانت هناك تكهنات أخيرا أن تقوم مؤسسة موديز بخفض تصنيف الدين البرازيلي هي الأخرى، لكن موديز أعلنت أنها ليست متعجلة في قرارها بتخفيض تصنيف الدين.
في أعقاب قيام ستاندارد آند بورز بتخفيض التصنيف السيادي للسندات البرازيلية تم الإعلان عن برنامج للتقشف في صورة حزمة لخفض الميزانيات وزيادة الضرائب بنحو 65 مليار ريال. البرنامج المالي أدى إلى رفع قيمة العملة بنحو 1.5 في المائة أي إلى 3.8154 ريال للدولار، في الوقت الذي ارتفع فيه سوق الأسهم. ذلك أنه من المتوقع بعد القيام بتطبيق الحزمة أن يتحول العجز إلى فائض أولي بنحو 0.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، قبل دفع الفوائد على الديون، بدلا من عجز في الميزانية يحدث بعد تطبيق المستهدفات المالية للمقترح الثاني للميزانية لـ 2016.
غير أن هذا الخفض في الميزانيات يتطلب أيضا موافقة الكونجرس، وهو أمر ربما قد يصعب تمريره أخذا في الاعتبار العلاقة المضطربة بين الرئيسة والبرلمان. فقد حاولت الرئيسة تمرير حزمة الإصلاح المالي من خلال رفع الضرائب، لكن المقترح رفض في البرلمان. تجدر الإشارة إلى أن هذه هي المرة الثالثة التي تعيد فيها الرئيسة ووزير المالية مستهدفاتهما حول الميزانية لعام 2016.
وأخيرا فإن الجذور الحقيقية لمشكلات البرازيل الاقتصادية تكمن أساسا في واقعها السياسي، فهناك عدم قبول بشكل عام للرئيسة الحالية للبرازيل، وهو ما يقيد من قدرتها على الاستجابة للضغوط الاقتصادية على النحو المناسب. التوقعات تدور حاليا حول أن روسيف رئيسة البرازيل ربما لا تتمكن من إكمال فترتها الثانية في كرسي الرئاسة، التي تنتهي في 2018. بل لقد ألمح بعض المعلقين حتى إلى احتمال محاكمة رئيسة البرازيل على خلفية فضيحة بتروبراس، وهو الموضوع الذي سبق أن تناولته هنا في “الاقتصادية”.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟