قبل عشرين سنة بالضبط كتب فاهان زانويان في دورية “فورن أفيرز” مقالاً عن واقع دول المنطقة في ذلك الوقت وأترجم بعض فقراته.
الإجازة من الاقتصاد تتمثل في واحدة من جملة الأعراض المرضية، هي غياب القيود الضابطة على الميزانيات العامة، الذي بدوره، أي غياب القيود، يخفف أو يحول دون تخصيص أولويات الإنفاق العام حسب تضاؤل الموارد الاقتصادية.
أكثر من ذلك، لما كانت الكعكة المالية كبيرة الحجم لدرجة أنه مهما كان الانحراف شديداً في توزيع الدخل على قطاعات المجتمع، يبقى هناك دائماً فائض مالي لتطوير وتحسين مستويات المعيشة (بكلام شعبي غير أكاديمي يقول إنه مهما كان حجم الهدر (أو الهبش) كبيراً من مصادر الدخل يظل هناك فائض مالي يوزع على السكان ويرفع من مستوى معيشتهم ويسكتهم).
البطالة كانت غير متصورة، فطالما أظهرت الحكومات قدراتها الكبيرة على توظيف المواطنين وغير المواطنين في الدولة.
هذه الظروف الاقتصادية قادت إلى طريق هروب متواز من السياسة، وعبر ذلك الانكفاء عن قراءة الواقع تمكنت النخب الحاكمة من تهميش المشاركة السياسية، فهي ليست بحاجة لتجديد شرعياتها أو كانت بحاجة مماثلة للسماح لحوارات جدية ونقاش حقيقي حول قضايا اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية كبرى مثل الإصلاح الاقتصادي أو الضريبة… فكما نعرف أن النتيجة الحتمية لغياب الضريبة هو غياب التمثيل السياسي، (بمعنى أنه لا ضرائب من غير تمثيل سياسي كشعار البداية للثورة الأميركية).
ويضيف الكاتب أنه في السنوات الماضية ارتفعت أسعار النفط بدرجات كبيرة في أعوام السبعينيات والثمانينيات، وحققت فوائض مالية كبيرة أدت بدورها، رغم حدوث انخفاضات في الأسعار عام 86، إلى أن النخب الحاكمة ظلت على نهجها القديم في إطالة عمر الإجازة من الاقتصاد والسياسة، فكانت زيادة الثروات المتحققة كبيرة، وتم بناء الطرق والمستشفيات وغيرها، والنتيجة على الجهة المقابلة هي إغلاق أفواه معظم المعترضين على الوضع السياسي – الاقتصادي.
ويمضي الكاتب في عرض أمراض ذلك المرض الريعي، ليصل إلى فقرة عنونها باسم “الرمال المتحركة” ليقول “الآن النظام الاقتصادي القائم على الدخل المتحقق من غير جهد unearned income لم يعد ممكناً، وتظهر الحاجة كبيرة إلى عقد اجتماعي جديد، تتخلص به دول المنطقة من كل مقومات الإرث الاقتصادي المتراكم عبر العشرين سنة الماضية (تذكروا أنه كتب مقاله قبل عشرين سنة أي عام 95) لتبدأ هذه الدول بداية جديدة…”.
يستمر الكاتب الأرمني الأميركي في مقاله بتشخيص الأمراض السياسية الاقتصادية المستعصية في نظام دول الخليج بفكر رزين يصعب نقضه.
من جديد نتذكر أن المقال نشر عام 95، أي في سنة انخفاض أسعار النفط لدرجة كبيرة، واستمر ذلك الانخفاض فترة من الزمن، ثم عادت الأسعار للارتفاع لدرجات قياسية، في السنوات القليلة الماضية، لتمسح من أذهاننا كل التحذيرات التي كتبها فاهان وغيره عن مرض الاتكالية المطلقة على اقتصاد دكاكين النفط، لنعود الآن من جديد في أزمة أكبر وأخطر مما حدث في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فلم يكن في ذلك الوقت وفرة في إنتاج النفط الصخري بالولايات المتحدة، وغيرها من الدول التي شرعت في إنتاجه، وكانت قضية الأمن السياسي واستقرار الأنظمة من أولويات الغرب وأميركا… فهل هناك من يقرأ الخريطة السياسية، بعد النفط الصخري والربيع العربي وخريفه في الثورة المضادة، وتقطيع الأوطان العربية من جديد بحروب الطوائف والقبليات، كي ينتهي بالاستنتاج السابق ذاته، أي إن التاريخ ثابت ولا يتغير في مفاهيم النخب الحاكمة المؤمنة بمأثور تراثي بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان؟
عشرون سنة مضت من نشر مقال فاهان زانويان “ما بعد الرخاء النفطي، ونهاية الإجازة بالخليج”، وأشرت إليه في أكثر من مقال بالماضي، لنسأل أنفسنا، الآن، ماذا تعلمنا من التاريخ ودروسه؟ وماذا نقول عن العقل الذي يرفض الواقع ويصر على المضي في دنيا الأوهام…؟