تتزايد أهمية دور المفكرين والمثقفين الحقيقيين في إحداث التغيير الإيجابي على نحو أكبر من السابق. وأعني بالتغيير: التأثير الأكثر شمولية في مختلف الشرائح. فوجود المثقفين لم يعد نخبويا ومحدودا، حيث كانت الثقافة في العقود التي تسبق ذلك ـــ غالبا ــــ نخبوية، وإن تناولت باقتصاد ورمزية قضايا شعبية ماسة، في الأطروحات الأدبية والفكرية. وجود ودور المثقفين الحقيقيين يقود إلى انفتاح تنويري أكبر من العقود السابقة. لأن الثقافة النخبوية السابقة لم تكن متاحة للعامة سوى من خلال قنوات محدودة مقارنة بالوضع التكنولوجي الحديث. لكن في المقابل، ربما تكون هناك ثغرة يصحبها هذا الطوفان التكنولوجي كضريبة وهي الامتلاء الأجوف بكم من المعلومات المنوعة “الخردة”.
الانفتاح الإعلامي والتواصل العالمي جعل الأفكار المسترسلة على جميع الصعد تتطلب الفلترة. والفلترة هي تكثيف الفكر التحليلي الجدلي الناقد، لمواجهة كم المعلومات المتضاربة والآراء التصادمية والعدوانية. بعض الانفتاح عامة قد ينقل البعض من وعي سطحي إلى وعي زائف. إلا أن نضج الوعي قد يقتلع المفاهيم الرثة من جذورها، وقد يحفظ الأفكار الجيدة التي تشكل القاعدة فيصقلها وينقلها إلى محطات جديدة من الفهم والإدراك. ما من شك أننا نشهد مع ذلك نسبة وعي اجتماعي وسياسي وحقوقي يتزايد بصورة أعلى بكثير جدا من السابق. وكل تطور له ضرائبه.
التخلف العربي ــــ عامة ــــ والمحلي خاصة خرج من فرن ثقافي يحارب الأفكار الجديدة، التي في نظر مجتمعاته بسيطة التفكير: أفكار تغريبية تحارب الدين والتقاليد والهوية. وهي إنما في الواقع تحارب تطور وتعددية الفكر، وفوق ذلك الحضارة الحتمية. إلا أن ذلك ينتهي بعد زمن بالرضوخ لجريان نهر الزمن وتقبل أدواته الجديدة. لطالما كان التنميط هو الحارس الأمين في وجه أي رياح تهب نحو الشرق العربي، مع قلق من أي تنوع فكري. التنوع ليس سوى أمر فطري، كما أن التظاهر بالانسجام الفكري العام المنمط ليس سوى مطب، يؤدي إلى تضارب اجتماعي غير محمود. التعدد الثقافي والفكري هو نتاج قوة، وإن أي مجتمع لا يعترف بالاختلاف والتعددية هو بلا شك مجتمع مفلس. هذا ما أثبتته تجارب المجتمعات الأخرى تاريخيا.
اكتسبت الثقافة في العقول التي ترى الفكر سيئا صورة سيئة. هذه الصورة تتغير حين يحدث تماس حقيقي بين الفكر وبين هموم الناس، فيستشعرون واقعيته وتموضعه بينهم وبين ما يقلقهم، فيقدرون قيمته. هؤلاء الناس هم الذين يعيدون الآن تشكيل فكرهم ويستقبلون وعيا جديدا يؤسس قاعدة أفكار أساسية، يغيرها، أو يهذبها. لا يقل دور المثقف عن دور السياسي، ولا سيما في فترة التحولات الكبرى. ومن بين ذلك، يقوم الإعلام بكل أشكاله بدور مفيد في إثارة فكرة النمطية. ربما ينجح أحيانا في تصحيح العقول المبرمجة على الأفكار الأحادية. هل يقوم بدوره بالشكل الصحيح والكامل؟ ربما ليس تماما. لكنه يقدم ذلك، وهذه بحد ذاتها محاولة جيدة لأدوات متوافرة.