في جلسة حوار عن الشأن السياسي المحلي والخارجي في احد الدواوين العامرة بالثقافة، احد كبار السن كان يستمع باهتمام لكل ما نتناوله من حديث فيه وجهات نظر متباينة، وكانت الابتسامة لا تغيب عن وجهه البشوش، وفي آخر الحديث نطق بجملة أجدها الأهم وذات معنى بليغ تستحق التوقف عندها، وتعتبر هي الأصل بين كل ما تطرقنا اليه من قضايا سياسية، قال «نحن شعوب فقط تعشق التنظير وتكره التنفيذ»!
عبارته جعلتني اسأل ماذا تقصد بالضبط؟! فقال: الشعوب المنتجة هي صنيعة ثقافة دائما ما تكون أهم أولوياتها التطوير ونهضة الأوطان، وهذا يتم بالعمل والجهود المبذولة والإبداع والتعاون والابتعاد عن حالات الانتقام والتبعيات القبلية والمذهبية والطموح والمصالح الضيقة، وكل ينفذ تلك الأولويات والمهام حسب موقعه والمهمة الموكلة إليه دون القفز على صلاحيات الآخرين او التطفل على شؤون لا تعنيه لا من قريب ولا بعيد، وتلك الشعوب غالبا ما تكون نشطة في الأولويات التي تندرج تحت المصلحة العامة التي تجلب ديمومة النمو بشتى المجالات وتمنح الخير للكل دون استثناء، ولا ترغب ابدا بالتنظير كما هو الحال في واقعنا المرير الذي نجد به كل شخص ينادي لذاته ويسوق لها ويعتقد في نفسه انه الأصلح والأكفأ وعندما يتسلم المسؤولية الموكلة إليه لا نجد منه الا الخطابات الرنانة والتصريحات الإعلامية الملتهبة بالإنجازات والبطولات المزيفة والحقيقة على ارض الواقع لا شيء يذكر، وتلك الانجازات الوهمية فقط نجدها في عقول المستفيدين منه، والأمثلة أشهر من أن تذكر هنا!.
واسترسل بكلامه قائلا: ولو أتينا على المستوى الشخصي، جميعنا متعلمون ومن اصحاب الشهادات العلمية ذات التخصصات المختلفة، ولكن لم اجد يوما طول تلك السنوات احدا منكم يتحدث عن تخصصه، وما يمكن ان يفعله من تطوير او انجاز من اجل وطنه ومن اجل المصلحة العامة، وكل ما تتحدثون عنه لا يخرج عن نطاق خرابيط السياسة والانتقادات اللاذعة لفئات واشخاص ومسؤولين ودول دون ان تقدموا حلولا حقيقية للخلل الحقيقي وهذا ما يسمى بالإفلاس المجتمعي، وهذا هو التنظير الأعوج بعينه الذي يشبه السراب الذي تراه وتركض خلفه ولا تصل إليه.
وقال: ان دواوين الماضي كان روادها يتحدثون عما ينفعهم بشؤون حياتية وقصص جميلة تمنح العبر والمواعظ، اما الآن فالكل اصبح سياسيا مخضرما حسب ما يرى بنفسه وهو بالحقيقة لا يعرف حتى ابجديات السياسة، وهنا يكمن الخلل بأن الشعوب التي تنظّر كثيرا لا تعمل إلا قليلا ومصيرها الفشل.
بعد كلامه لم اجد ألا الاستسلام والتأييد لكل ما قاله من حقيقة مجتمعية احيانا نتجاهلها، لان كل ما قاله واقع بدأنا نلمس آثاره في حياتنا اليومية نحن نعشق التنظير السياسي والتمجيد الأعور لشخصيات هنا وهناك تمر في الساحات السياسية فقط لان تنظيرهم سحر العقول وجعل الكثير منا ينطق بذات الأسلوب الملتوي والمتلون، متجاهلين مبادئ وخطوات الانجازات الحقيقية، واصبحنا مجتمع من يجيد التنظير باحتراف سيحصل على ما يريد.
واخيرا.. أود ارسال تلك الرسالة الى كل مسؤول ومنهم نواب الأمة واسألهم: هل حققتم شيئا على ارض الواقع من تنظيركم الذي كان يصدح بكل زوايا الإعلام قبل توليكم تلك المسؤوليات؟!.. ودمتم.