أثارت تصريحات البطريرك كيريل، بطريرك موسكو وكل روسيا، في شأن التدخل العسكري في سورية بصفته معركة مقدسة سخطا وسخرية. إذ كيف لروسيا رمز الشيوعية والإلحاد أن تستعين بخطاب ديني لتبرير قرار عسكري وسياسي! وربما بسبب ردود الفعل اضطر المسؤولون الروس إلى التصريح مجددا بأن ثمة أخطاء في النقل والترجمة في استخدام مصطلح “المعركة المقدسة”. وقد قال البطريرك في تصريح منشور “روسيا لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه الإبادة التي يتعرض لها المسيحيون والأقليات الأخرى في تلك المنطقة.. فقد تابع المسيحيون الأرثوذكس ظروف العيش القاسية لمسيحيي المنطقة وحوادث الخطف والذبح المقيت تجاه الأساقفة والرهبان والتدمير البربري للهياكل المقدسة.. الضرر أيضا لا يستثني المسلمين في تلك الديار التي هي مقدسة بالنسبة لكل أتباع الديانات الإبراهيمية”. البطريرك، الذي عادة ما يبدي رأيه في الأمور السياسية، مؤيدا للكرملين، أعلن أن الكنيسة تدعم قرار روسيا استخدام قواتها الجوية في سورية لمهاجمة تنظيم داعش. يذكرنا ذلك بما قاله وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف قبل عام “لا يخفى على أحد أن المقدسات الدينية في سورية تتعرض اليوم للتدنيس والعبث. وقد قرأت أخيرا عن هدم كنيسة أرثوذكسية في سورية وإتلاف صورة لقديس يحظى بمكانة مرموقة سواء لدى المسيحيين أو المسلمين”.
عرف عن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية علاقتها الوثيقة بالسلطة السياسية والعزف على وتر الدين لتأييد قراراتها. وهذا ليس طارئا، بل منذ روسيا الشيوعية وإبان الحرب العالمية الثانية، حيث شهدت علاقة رومانسية بين السلطتين. وقد كان الدين بطبيعة الحال في العصور الوسطى والقديمة هو السبب والمحرك الرئيس للحرب، قبل فصل السلطة عن الكنيسة في أوروبا. وهي تتغذى في منطقتنا الآن على المحرضات نفسها. وحين اشتعل الشرق الأوسط بالثورات في السنوات الأخيرة، كانت المليشيات الإرهابية، ومن فوقهم محرضو الجهاد الإسلامي، يقتلون الأبرياء باسم الدين بصفة أن ذلك معركة مقدسة، فيما ينشر ما يسمون أنفسهم بالعلماء دعوات للتحريض والجهاد للدفاع عن “السنة” ومساجدهم. الأمر نفسه حين أرسل حسن نصر الله عناصر حزب الله وقال إن التدخل في سورية والعراق هو لحماية المقدسات الشيعية. ما يحدث في إسرائيل وفلسطين مثال تاريخي آخر ينطلق من الأرض الموعودة.
بعيدا عن التبريرات الدفاعية للحروب، أثارت إعجابي ردود الفعل الغاضبة من مسيحيي سورية أنفسهم، في الوقت الذي تحاول فيه جماعات الإسلام السياسي تكريس العقيدة على الوطن، بوصف الوطن مجرد رابط مادي. وأستشهد ببيان جيد من منظمة “سوريون مسيحيون من أجل السلام”، الذي اعتبر أن خطورة التصريحات الروسية تكمن في أنها تضع مسيحيي سورية من الأرثوذكس تحت تهمة العمالة المتعاونة مع الأجنبي ضد بقية أبناء الشعب السوري “نعلن استنكارنا الشديد لمثل تلك التصريحات الدينية والعقائدية المختلفة.. الكنيسة الروسية ليست وصيّة على المسيحيين.. كما نرفض أي حرب تحت أي مسمى أو غطاء ديني. إننا نعتبره تصريحا سياسيا، يجب ألا يصدر عن رجل دين.. هل فكر هذا البطريرك بالضرر الذي يمكن أن يلحقه بالعيش المشترك بين مكونات الشعب السوري، حيث نعمل كل جهدنا أن يبقى مثل هذا العيش قائما ومستمرا كمقدمة لدولة المواطنة السورية التي هي حجر الزاوية لبناء الدولة المدنية الديمقراطية السورية”.
بين الإسلام ومذاهبه، والمسيحية ومذاهبها كما بين الأديان وبعضها، حروب دموية تاريخية. ربما من البلاغة وصف ما يحدث على مر التاريخ بكلام السيد المسيح “بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص”.