كيف نفهم دور الثقافة العربية بينما تنهار الدول وتسقط المناطق في ظل مشهد العنف الزاحف. لا يقع التآكل في كل مكان، لكنه يصيب كل الأمكنة بدرجات متفاوتة. وبينما تستمر الدول والأنظمة في ممارسة ثقافة تمجيدية تخلو من الروح النقدية، تبرز في الحالة العربية روح نقيضة تتميز بدرجات من النقد والتحرر من الضوابط التقليدية. إن اللحظة العربية الراهنة بعنفها عمّقت في صفوف الرأي العام العربي خطاب التشكك والتساؤل. فالخطاب الرسمي يعجز حتى الآن عن تفسير ما آل اليه الوضع العربي ويعجز عن اللحاق بالتحولات الكبرى التي تعصف بالحدث، وأدى هذا العجز الى طرح قوانين متشددة حول الحريات ما ساهم في تكوين رأي عام يزداد نقدية وتخوفاً من المسار الراهن.
لقد أصبحت الثقافة الرسمية العربية خصوصاً منذ ٢٠١١ أكثر التصاقاً بالفئة المهيمنة التي تستخدم الأدوات الإعلامية الهادفة للتأثير في السلوكات. لكن هذا الالتصاق هو الآخر منفر للناس يساهم في بحثهم عن مرويات مختلفة من مصادر أخرى. والسبب في هذا ان الأحداث العربية تتجاوز التوجيه والتعبئة، فكل إعلان لا تدعمه الوقائع والحلول سرعان ما يتراجع أمام ضربات الأحداث. من هنا يبدو الخطاب الرسمي العربي وقد تحول إلى الدفاع مبرراً القصور الكبير الذي يمس الحريات والحقوق والمساحة العامة والعقد الاجتماعي بل وصنع القرار كلية أو جزئياً في المجال الخارجي والاقتصادي.
لقد قاومت ثقافة أوروبا الشرقية ثم أميركا اللاتينية وغيرها من الحضارات التفرد والخطاب الأحادي للسلطات وأنتهى الأمر بدرجات نوعية من التغير في ظل ثقافات متنوعة. وتم إلغاء وزارات الإعلام في دول كثيرة في العالم، بل تم إلغاء التوجيه السياسي بصفته من بواقي الزمن الشيوعي، بينما تستمر الثقافة العربية كحالة إعلامية ركيكة تتميز بالعليائية تجاه وجهات النظر الأخرى. فالثقافة العربية الخاضعة للسيطرة الرسمية تعيد إنتاج ما تخلى عنه غيرنا. وعندما يوجه النظام السياسي الصحف، ويتحكم بما تبرز وما لا تبرز ويسعى الى السيطرة على اللغة في المجال العام، منطلقاً من أن الكلمة هي السبب الرئيسي للمأزق السياسي وللطائفية والعنف والاهتزاز، فإن المشكلات تكبر وتفعل فعلاً مدمراَ. إن التراجع الراهن في الوسط العربي الرسمي والشعبي مرتبط أولاً بالوقائع الاقتصادية والإنسانية والسياسية المتعلقة بالمشاركة والقوة والضعف والسلطة والاقتسام والتهميش والفقر والمشاركة والحريات.
لكن الثقافة العربية الجديدة المستقلة عن الحالة الرسمية أكثر قوة وقدرة وأكثر تنوعاً، بالطبع، بحكم ميولها الاجتماعية والإسلامية أو الثورية والمعارضة والحقوقية والليبرالية. الثقافة الجديدة النقدية أقوى لأنها نتجت أساساً عن منافسة وعن جدل مع أحادية الثقافة المهيمنة. وبالفعل لم تتحمل الثقافة العربية الرسمية برنامج باسم يوسف الكوميدي لأنه تفوق عليها بيسر وسلاسة في المنازلة والمجادلة، فذلك البرنامج وحده ولّد اهتزازات كبيرة في الخطاب الرسمي ما أدى إلى إيقافه. لقد دخلت الحالة العربية نفس المجال النقدي المتنوع الذي سبقها إليها غيرها، تكفي مراجعة سريعة للرواية العربية في العقد الأخير لنرى أننا في زمن مختلف تجاوز مؤسسات الإعلام الرسمية. إن الثقافة العربية الرسمية غير قادرة على مجارات الخطاب المغاير وهي غير قادرة على اللحاق بالخطاب الحقوقي الجديد، ولن تستطيع مجاراة ما يقع في عالم الأدب والقصة وفي أوساط الجيل الصاعد. ان الخطاب الرسمي يعاند اللحظة وهو في هذا مطالب بالإنفتاح حتى لو كان تدريجياً وتفكيك خطاب التوجيه والسيطرة.
الثقافة العربية الراهنة على مفترق بين طريقين. فهناك طريق يستند إلى الدولة التي تمتلك بصورة مباشرة او غير مباشرة الصحف والمجلات والتلفزات وتسيطر عبر قوانين الإعلام الجديدة فتخيف من ينتقدها. جوهر هذا الطريق مرتبط بتبرير الثقافة السائدة ومعها السياسات الرسمية مهما كانت طبيعتها ومحدوديتها. من جهة أخرى هناك طريق آخر مرتبط بثقافة نقدية أكثر تحرراً من الثوابت السياسية والثقافية. إن الثقافة بالأساس منتوج نقدي، لو عدنا للتاريخ فكل الثقافات تطوّرت نتيجة نقد القيم السياسية السائدة. لم يتطور التاريخ الا ببروز الجديد من قاع المجتمع وتشكيلاته ومسلماته الثقافية والسياسية. لهذا يجب أن يكون في الثقافة مكان واضح للعدالة والأنسنة وللنقد وللحريات. فالتاريخ لم يتقدم إلا بنقد التعسف والفساد والموانع والهيمنة لدى الطبقات والفئات الحاكمة، إنه لا يتطور بلا قيمة للحقوق وقيمة أخرى لقول الحقيقة.
ويواجه المثقف العربي إشكالية الاختلاف مع الخطاب الرسمي. فالمثقف العربي يعيش حالة من التردد، لهذا يقول خطاباً في العلن يناقضه في السر، ما يقوله في العلن يكاد يكون أكثر رسمية من الجهات الرسمية، لكنه لا يعكس رأيه الصادق. فأي خطاب يعكس الحقيقة: الذي يقال همساً وفيه درجة أعلى من الصدقية والمعلومات وينتشر بين كل الناس، أم الذي يقال في العلن لأن السلطات تحاسب عليه، فيفقد قيمته وأساس صدقيته؟ لقد اعتادت الثقافة العربية على اللغة التمجيدية التي يذهب إليها قطاع من المثقفين سعياً منهم إلى الالتفاف على النظام السياسي وعدم التعرض للإقصاء الشامل والتصفية. ويقع كل هذا في ظل اهتزاز الأركان العربية. اللغة التمجيدية ليست حلاً، إنها جزء من المأزق.
ومن هنا نتساءل عن دور المثقف في ظل فوضى الإقليم وظروف تمزق مكوناته. ألا يجب ان يرتبط الدور، نظراً لطبيعة المرحلة ومصاعبها، بتعزيز قيم الإنسانية بين الناس والسياسيين، والعمل على فتح آفاق الوعي بخاصة في المجال السياسي الأصعب بهدف تقليل الغشاوة وطرح الرؤى؟ أليست كل ثقافة رسمية تعبيراً عن حقيقة محدودة تقودها إلى فخ تصديق حقيقتها واكتشاف عدم واقعيتها؟ أليست الثقافة الناقدة الطارحة للأسئلة الصعبة المنحازة أولاً للحقيقة وبنفس الدرجة للضعفاء وما أكثرهم ولمن لا صوت لهم من الواقفين على هوامش التاريخ أمراً لا غنى عنه لنمو الحالة العربية الراهنة؟ إن دور الثقافة والمثقفين في تمثيل هذا الوضع هو دور تاريخي في هذه الفترة.
هناك نمط من المثقفين ممن يعتقدون إن الإقليم سقط وانتهى، فرفعوا أيديهم عن الاهتمام بالرأي الصادق، وهناك من المثقفين من تبنّى التبرير بغض النظر عن صحة ما يقدم. لا ضرر من كل انواع الثقافة، لكن الواضح أن المنهج التبريري لن يؤدي بنا الا لزيادة تنتشار الفجوات التي يعاني منها العالم العربي والتي سبق أن شرحتها بإسهاب سلسلة من تقارير التنمية البشرية العربية: الفجوة في مجال العدالة وفي مجال الفقر والمعرفة والإنتاج والحرية والشفافية والتعليم. هذه كلها مكونات تؤدي للتطرف والعنف والثورات والتدخل الخارجي.
العالم العربي يعيش سلسلة من الحروب الأهلية والحركات السياسية في ظل تحديات حاسمة اقتصادية وإدارية تصيب الهوية وقدرة الدولة على البقاء ضمن صيغتها الراهنة. لكن الثقافة العربية تعاني لأنها تجد صعوبة في قول الحقيقة، وتجد صعوبة في التعامل مع موروث القمع والسلطة الذي يمنع الثقافة من التشتغال بالجوهري والنقدي. لقد تحولت الثقافة العربية في جانب منها إلى إعلام شكلي مؤيّد لسياسات في مكان ومدافع عن رؤى مرحلية محدودة في مكان آخر، لكن هذا لن يصمد أمام زحف التاريخ. إن دور الثقافة في هذه المرحلة هو فتح الباب لفكر متسائل مجدد يواكب ذلك الذي يحرك قطاعاً من الجيل العربي في قيم الحرية والتعبير. إن خيانة الحقيقة لمصلحة الخوف يؤجل مقدرة الأمة الأوسع على مواجهة الأخطار الحقيقية حول التغير والإصلاح والحقوق والفساد والحكم الرشيد التي تسقط الدول والمجتمعات وتفجر الحروب. لن تنمو الثقافة بلا قول الحقيقة أولاً.