أمر غريب ومستقبح أن يكون منح صكوك الولاء وشهادات الوطنية بين الناس، وأن يتم تداولها ليل ونهار، بمناسبة وبدون مناسبة، أكثر من تداولات البورصة وسوق الحراج! والأغرب والأكثر قبحاً أن تكون الحكومة التي تزعم دائماً وتمنّ علينا بالطول والعرض بأنها صمام الأمان وحامية الحمى وعصا القانون أحد كبار المتفرجين على مسخرة توزيع الولاءات بين الناس وبهذا الشكل المريب!
جميع مجتمعات العالم المكونة من ملل ونِحل يرتكب أبناؤها الأخطاء والتجاوزات الجنائية منها وحتى السياسية والأمنية، فتتم محاسبتهم ومعاقبتهم في حالة الإدانة وثبوت التهم، ولكن لا يتجرأ المجتمع أن يصدر التعاميم بالتخوين والطعن في ولاء كل المكوّن المجتمعي وبشكل رخيص؛ لأن المصلحة العامة والاستقرار الأمني والنسيج الوطني فوق كل اعتبار بما في ذلك الجرائم الكبرى، إلا في الكويت حيث إن عمل من لا عمل له واهتمام العديد من “البطالين” هو توزيع شهادات حسن السير والسلوك، وتصل الحال بهذا المرض أن يكون علية القوم والساسة ومدعو الفكر في المستوى الضحل نفسه من تعمد الإساءة والتحريض، حالهم في ذلك حال المراهقين والمتحمسين من عامة الناس لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من باب التعبير عن الرأي!
هذه الآفة لا يستثنى منها إلّا القليل بين عموم الفئات المجتمعية بتركيبتها الاجتماعية والعرقية والمذهبية، وغاية ما في الأمر أن العملية تدور في حلقة متكررة يكون ضحيتها في كل مرة طائفة أو قبيلة أو تيارا سياسيا، حيث التشهير والتحريض على إبادتهم وضربهم وسحب جنسياتهم وغير ذلك من التعابير التي تنمّ عن أحقاد واضحة، ولم تعد متخفية أو تراعي الحياء العام.
الأصعب من هذا أن الفئة التي يحين دورها في الاستهداف تعيش حالة نفسية منهارة وشعورا كبيرا بالخوف والقلق، واهتزاز الثقة بالنفس يجعل أفرادها منشغلين في البحث أو حتى الاستجداء لعلهم يحصلون على تغريدة من بين آلاف التغريدات أو مقال لكاتب من بين العشرات من المقالات المسمومة وترويجها أملاً في يكون ذلك صكاً للوطنية والولاء، وهذه الحالة عشنا تفاصيلها اليومية وتطبيقاتها الواقعية على مدى السنوات الخمس الأخيرة، حيث دارت الدوائر على مختلف شرائح الكويتيين تقريباً.
من الطبيعي أن يكون فشل موروثنا الثقافي ومسيرة عملنا السياسي وقصور الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها وبإدارة حكومية منفردة السبب الرئيس في فقدان معنى المواطنة، والهوية الوطنية المحصنة والمحمية بقوة القانون وهيبة تطبيقه وتنفيذه، ولكن في الوقت نفسه فإن الأمراض النفسية تعد الرافد الآخر لتحريف مفهوم الوطنية حسب المزاج والكيف، وهذا المرض في الواقع مزدوج الاتجاه.
فالمريض النفسي الذي قد لا يمتلك مقومات المواطنة في سلوكه وعمله وإخلاصه يتحين أي فرصة ليلبس حقيقته الذاتية على الآخرين فقط، ومن أجل التهرب من عقدته الشخصية فقط، ولذلك تجده شرساً في إلقاء التهم بعصبية وانفعال وسطحية جاهلة، أما المريض النفسي الآخر فهو الفاقد لثقته بنفسه فتكهربه هذه الاتهامات وتنّكد حياته لدرجة أن تشل مشاعره وإحساساته الوطنية، وحينما تظهر عليه مثل هذه العلامات تزداد عليه الضغوط والاستهداف، نعم قد يكون الوضع مؤلماً إلى حد كبير أن يرى المواطن سيل التهم من مواطن مثله، ولكن بلسم هذا الجرح عندما تضع من يوجه الاتهام في حجمه الحقيقي، وتستصغر شأنه بكل ثقة وكبرياء، فصكوك الولاء لا يوزعها أحد لكنها تجمد على شوارب الرجال أنفسهم!