سجلت السنة الماضية أعلى رقم في التاريخ بعدد اللاجئين والنازحين في العالم، متجاوزةً بذلك أعدادهم إبان الحرب العالمية الثانية. بالطبع هذه المأساة هي نتيجة لتردي حال العالم وسوء إدارته وعلى الأخص الدول القوية.
في الفترة الواقعة بين 2001 و2009 كلفني الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان بتولي ملف الصومال الحقوقي، كنت أزور الصومال حينئذٍ من أقصى شماله إلى أدنى جنوبه، وأقدم بذلك تقريراً سنوياً إلى مجلس حقوق الإنسان بجنيف، كنا نحل بعض المشاكل الإنسانية ولا ننجح في غيرها.
إحدى المآسي المستمرة التي كانت تؤرقني هي حجم الصوماليين الذين يعبرون البحر إلى اليمن الفقير أصلاً.
يركب أولئك المرهقون الذين أتعبتهم الحياة وقسا عليهم الزمن مركباً هالكاً متهالكاً من مدينة بوصاصو لكي يقفزوا على الساحل اليمني ويختفوا وسط زحام البشر، وبعضهم يصبح طعاماً للسمك. في كل شهر كان يموت منهم قرابة الثلاثمئة إنسان غرقاً، ومع ذلك يستمرون في المخاطرة. ذهبت إلى مكان “شحن البشر” عدة مرات متسائلاً عن جدوى هجرتهم إلى اليمن، وكان الرد يأتي صاعقاً: “إما أن نعبر إلى اليمن أو نموت”… قالها لي رجل في ثلاثينياته قطع قرابة الألف كيلومتر مشياً على الأقدام، وظل يعمل في التحميل مدة ستة أشهر لكي يوفر ٧٥ دولاراً يعطي منها ٥٠ دولاراً لصاحب المركب، ويحتفظ بـ٢٥ لتعينه على الظروف.
ورغبة مني في استثارة الوعي بالمأساة كنت أثيرها عالمياً في مناسبات عديدة، إحداها حين أقمنا “يوم الصومال في جنيف” في “باليه ولسون”. عرضنا فيه فيلم “رحلة إلى الجحيم” للمخرج الفرنسي جلانكومو الذي صعد إلى المركب وشارك أولئك التعساء رحلتهم عليه إلى الجحيم. كان فيلماً عارضاً حجم القسوة في هذه الحياة، فما أتعسنا حين يكون لدينا فقط خيار بين الموت والموت.
استمرت الحالة المضنية ولم تتوقف، واستمر سقوط الضحايا دون اهتمام من أحد، حتى حدثت الحرب الحالية في اليمن، فبدأ الصوماليون، ومعهم يمنيون بالهجرة والنزوح إلى الصومال… هجرة الموت العكسية من الموت إلى الموت، مرة أخرى. نقوم هذه الأيام في مركز السلام بالتنسيق مع الهلال الأحمر الكويتي الذي تجاوب مشكوراً كعادته في دعم إيصال مواد غذائية إلى اللاجئين اليمنيين والنازحين الصوماليين في الصومال.
وبتزايد أعداد اللاجئين الفارين من نير الحروب والنزاعات المسلحة والاضطهاد والفقر شاهدنا مشاهد عارية من أي إنسانية، كان آخرها موت أكثر من ٧٠ مهاجراً اختناقاً في شاحنة، وقبلها بيومين موت 52 في قارب. الحكاية هي ذات الحكاية، فلا فرق بين أن تموت اختناقاً في شاحنة بالنمسا، أو في قارب على سواحل إيطاليا، أو غرقاً على سواحل اليمن… ولكن هل يستطيع أحدنا أن يستوعب حجم الخوف والهلع حين الموت الجماعي اختناقاً في شاحنة؟
يأتي ذلك ضمن جريمة الاتجار بالبشر “المدانة” من الجميع علناً، ويغضون الطرف عنها عند حدوثها في بلاد “الأسراب”، أما الآن وعندما صار أولئك “التعساء البؤساء” يدقون أبواب أوروبا فلا مانع من قتلهم وإطلاق النار عليهم أحياء.
على العالم أن يتعامل بجدية مع معاناة حوالي ٧٠ مليون إنسان، ويتزايدون، وأن يقطع دابر الاتجار بالبشر ويتعامل معه كجريمة إرهابية أو جريمة حرب والتصدي الفاعل لمسببات تلك الجرائم.