بجنون عارم، يقتل أبناءه الثلاثة ليثبت للناس – بحسب قوله – أنه «ذو بأس شديد»! وآخر يعود من الحجّ لينحر ابنته الشابة لأنه – حسب إفادته – رأى والدته المتوفاة في المنام تخبره بأن ابنته «ليست صالحة»! وشرذمة من القتلة تفتك بالناس وتفجّر في المساجد وفي الأسواق وفي الحياة كلها، خصوصاً وقت الظهيرة، لتلحق على الغداء في جنان الخلد مع رسول الله (ص) ومع الصحابة (رض)! بل لاشك في أن بعضهم وصل إلى أعلى مراحل «الإيمان» ليعتبر نفسه، ليس من أحفاد الصحابة، بل من الصحابة، متنعماً بمكانتهم السامية.
دواعش ونواصب وروافض وكفرة ومشركون ومجوس وخونة وأعداء الله وأحباب الله، نساءً ورجالاً، هم بالملايين دون شك في مجتمعاتنا العربية والإسلامية الذين لم يعد مستغرباً أن يقولوا عن أنفسهم أنهم من الصحابة أو من أولياء الله الصالحين، وهم في حقيقة الأمر ليسوا إلا صورةً في أشد انعكاس الخطر على المجتمع العربي والإسلامي، يفرزون أمراضهم النفسية والاجتماعية وجنونهم في التدمير والذبح وسفك الدماء.
هكذا، قرأت نتائج دراسات مجموعة من الباحثين العرب والمسلمين في مجال علم النفس والمجتمع، ومن بينها دراسة قيّمة للباحث لطفي عبدالعزيز الشربيني من جمهورية مصر العربية، الذي دقّ ناقوس الخطر والحذر في بحث «عصر الأمراض النفسية»، وهو بحث يساند أبحاثاً اجتماعية وإنسانية أخرى شخّصت المخاطر التي يشكلها ملايين العرب والمسلمين من ذوي القابلية الداعشية والإرهابية والطائفية، ممن تربّوا في بيئات غذّتهم بالمناهج التعليمية (الديناميتية)، وملأت عقولهم وقلوبهم بشوائب الخطاب الديني المتطرف بكل تشدّده المقيت، مضافاً إلى ذلك كله، الأوضاع المعيشية السيئة والحرمان وانعدام العدالة الاجتماعية والقمع والاستهداف والتمييز. وهذه صور باتت واضحة في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية.
الباحثون يريدون إيصال أصواتهم إلى الحكومات العربية، ليقولون لها بصريح العبارة: «لستم في حاجة إلى السلاح والعتاد العسكري. ما عاد ذلك يهم. الخطر سيكون من جيوشٍ من ملايين القتلة والمرضى النفسانيين والطائفيين وذوي الميل العدائي المضاد للمجتمع (سايكوباتوتيك)، فأنتم في حاجة إلى جيش من التربويين المعتدلين المؤهلين لإزالة العبوات الناسفة المزروعة في مناهج التعليم، وإلى جيش من الخطباء والمشايخ والدعاة والباحثين الاجتماعيين والإعلاميين ومنظمات المجتمع المدني، وإلى قرار سياسي حازم يدعم كل أولئك، في تنظيف المجتمعات من مخاطر وارتدادات ملايين القنابل. فمنهم من يعتبر نفسه من الصحابة الكرام، ويتلذذ بنحر رقاب خلق الله لأنه يصنفهم على هواه باعتبارهم كفاراً أو مشركين أو أعداءً لله ولرسوله، فيما هو «المجنون»، التقي الورع القاضي بأمر الله!
حين شاهد الملايين جريمة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، تحدّث عالم الاجتماع والنفس الأردني حسين خزاعي محللاً فيديو الحرق بقوله: «إن من قام بإنتاج هذا الشريط أو الفيديو بهذه الطريقة يشير إلى شخصية سادية وحشية. ومن الواضح أن هؤلاء شخصيات سادية تتلذّذ بتعذيب الآخرين وترويعهم. قيادات هذه التنظيمات – دون أي شك– هي قيادات مريضة مضطربة وليس لديها أي اهتمام بالقيم الإنسانية، فما شاهدناه يحمل دلالات نفسية وسياسية أخرجت بطريقة مرعبة تدل بشكل قطعي على أن هذا الجماعات مشوهة فكرياً وذهنياً».
الباحثون يجمعون على محور مهم، وهو دور الحكومات، وبعضها متهم بأنها غذّت على مدى عقود طويلة، ولا تزال تغذي، الطائفية والكراهية والتمييز والتناحر المذهبي، وحتى يتخلص المجتمع العربي والإسلامي من هذه الجيوش المدمّرة، فإن المطلوب ثقيلٌ جداً، ويتطلب سنوات من العمل بحزم، تبدأ بقناعة تلك الحكومات في أن الخطر داخلها ثم داخلها! فالتنشئة الاجتماعية الخاطئة ومناهج التعليم القبيحة وغياب العدالة الاجتماعية ونشر نمط التشدد والتكفير في الخطاب الديني المسنود رسمياً من بعض الحكومات، جعل البيئة العربية والإسلامية منتجة للأمراض النفسية، كما يؤكد على ذلك أستاذ واستشاري الطب النفسي بجمهورية مصر العربية أحمد عبدالله.
بالطبع، من بين أولئك المجرمين أدوات وأجهزة وأصوات ومشاريع إعلامية كبيرة جداً، ولن نتساءل عن مصدر تمويلها فهذا يحتاج إلى شرح طويل مفصل، ولكن لنتحدث عن اتجاهات الترويج في وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات والإعلام الالكتروني لنجري دراسة مقارنة بين الخطاب المعتدل ومعدل انتشاره، والخطاب التكفيري المتطرف ومعدل انتشاره، فالأخير هو الأقوى وهو الذي يحظى بالدعم كما هو حاصل في كثير من الدول، حتى أن البعض (ممن يحسب نفسه على الصحابة رضوان الله عليهم وهم منه ومن أفكاره وأشكاله براء)، يرى أن تأويل آيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية الشريفة حسب ما يهوى، ما هو إلا نصرة للدين الإسلامي.
يا حكومات العرب والمسلمين، أكرر سؤالي: «ماذا يفعل كل أولئك المستشارين في مكاتبكم؟ وإذا كانوا يصنعون خيراً وينصحون ويقدّمون الدراسات، هل تستمعون لهم بالفعل؟ ثم لماذا نعيش كل هذا الدمار الذي ينبع من داخل مجتمعاتنا؟ لم يعد هناك وقت أكثر لاستخدام القمع واللغة الدموية والطائفية والفساد والصدام المذهبي. وقت الحزم، يتطلب إعادة بناء المواطن العربي المسلم منذ أول يوم يدخل فيه إلى المدرسة.