منذ موجة الاستقلال والتحرر الوطني من الاستعمار الغربي، ودول العالم العربي وشعوبها تعيش في مخاض إقامة الدولة العصرية، التي تحقق الأمن والاستقرار، والتطور الذي يحقق العيش الرغيد وضمانات التمتع بحياة إنسانية كريمة، مع تعايش ومشاركة في السلطة والقرار.
ومنذ خمسينات القرن الماضي تدافع الكثير من أبناء هذه الأمة لقيادة زمام السلطة في دولهم، منطلقين من فرص مؤاتية، لكن نواياهم ومقاصدهم لم تكن صافية، إذ أن الهدف كان بلوغ السلطة ذاتها، وقد تشكلت الأحزاب والمجاميع السياسية والمكونات الاجتماعية لغاية ضيقة ليست هي بناء الدولة الوطنية والارتقاء بها، بقدر الوصول للسلطة والاستئثار بها، وهو ما أفرز موجة من الانقلابات العسكرية المتتالية، وقد كان الظفر بالسلطة غايتهم،
ولذا فقد انشغلوا في هذه المرحلة بثلاثة أمور، كيفية الوصول للسلطة، الحفاظ على الاستمرار بالسلطة، التعامل العنيف والدموي مع الغرماء السياسيين وأحزابهم، لتقليم أضافرهم وإقصائهم عن إمكانية الوصول للسلطة.
ولذا، فإن الدساتير وضعت ديكورا لتزيين الأنظمة، والديموقراطية كانت شكلا بلا مضمون، والحريات غائبة إلا من عناوين وشعارات براقة، والثروة كانت لاستمتاع من بالسلطة وتوجيهها في بناء المؤسسات العسكرية والأمنية التي تحمي النظام وليس الدولة.
وفي ظل أنظمة فردية دكتاتورية استئثارية، يصبح لا وجود للدولة، إذ تختزل جميعها بشخص الحاكم أو بالحزب أو الطائفة أو الفئة المهيمنة، وهو ما خلف تراكمات من الحنق والعداوة بين هذه الأنظمة وشعوبها، يسهل معها نجاح أي تحرك لإسقاط هذه الأنظمة، رغم عدتها وعتادها وسيطرتها على مقاليد الأمور في الدولة، لكن بناءها هش، لأنها لا تستند لدعم شعوبها، وإنما تحالفها الهزيل مع الغرب أو الشرق، بل ولا مكان فيها للتداول السلمي للسلطة. وقد استمر الأمر من حقبة لأخرى، حتى ما كنا نعتقد أن استقلالا يحررنا من المستعمر، اتضح أنه مباركة وسير نحو ما يرغب به المستعمر.
وقد مرت علينا أحداث عديدة تؤكد دورانا في ذلك الفلك، حتى وصلنا لما سمي بالربيع العربي، ليشكل تغييرا تكتيكيا ظاهريا، لكنه أبقانا في ركب التبعية الاستعماري، ولكن بشكل أكثر حدة هذه المرة.
ففجّر الغرب تناقضات المكونات الاجتماعية والعرقية والدينية، وانحاز لتغليب الجوانب الطائفية، وتعزيز احدها على الآخر، ليتركنا في مشهد نتآكل به من الداخل، ويشعل حروبا اهلية طائفية لا هوادة فيها، تمهيدا لتقسيم دولنا الى دويلات الشرق الأوسط الجديد. لذا نحتاج الى أن نعيد ترميم دولنا في أنظمتها وارتكازها على شعوبها، وإشراكهم الكامل في إدارتها، وأن نتعالى على جراحنا الداخلية وخلافاتنا العربية، لنتصالح لحفظ كياننا، وهذه أولى متطلبات الترميم.