من العادات والتقاليد الراسخة في المؤسسات الرسمية، ترك قضايا الفساد والبحث عن “المجرم” الذي بلّغ عنها حتى لو وصل الأمر للتحقيق مع كل موظف بغض النظر عن مدى قربه من موقع التسريب.
رسوخ هذه العادة يؤكدها وضع قانون يكفل حماية المبلّغ، وهو الشخص الذي كشف عن قضية فساد وأخرجها من الدوائر المعتمة إلى العلن، ولو كانت الأمور تسير بشكل صحي وسليم لتمّ علاج الأمر داخل الوزارة أو المؤسسة نفسها، ولكن من يسلم “الحرامي مفتاح الخزنة؟”، وأستطيع القول إن من يغامر بمستقبله الوظيفي و”يفعلها” يقابله خمسة أشخاص على الأقل علموا بوجود فضيحة فساد وسكتوا لفقدان الأمل بالمحاسبة، ويقينهم بأن العقاب لن يطول غيرهم.
إن للإفشاء الأبيض وتقارير ديوان المحاسبة فيما مضى فضلاً كبيراً على بعض نواب مجلس الأمة الذين وجدوا في تلك البيانات والمعلومات مادة تصلح للاستجواب أو التهديد أو حتى المقايضة، واليوم دخلت وسائل التواصل الاجتماعي بكل علاتها على خط كشف شبهات الفساد والفاسدين، ومن يحاول التستر عليهم، وآخر ما تم الكشف عنه حصل في وزارة الصحة فيما عرف بملف شراء المعدات والمستلزمات الطبية.
ومثل جميع القضايا التي يختلط فيها الجهل مع المصالح العامة والخاصة، قد يبدو أن الإفشاء بالنهاية هو تسريب لأوراق رسمية لا يجوز الكشف عن سريتها، ولكن استنادا للقضايا المتلاحقة ونوع الإفشاء نخرج بمصطلح جديد هو “الإفشاء الأبيض” الذي أعتبره درجة طفح فيها كيل موظف أو مسؤول شريف من كم التلاعبات والتجاوزات على المال العام تحديداً فكشف عنها.
ودون الحاجة لتفسير أو إبرار المصطلح الجديد، هل كان بالإمكان أن تكشف فضيحة سرقة أموال الـتأمينات الاجتماعية لولا “الإفشاء الأبيض”؟ وهل وجد قانون حماية المبلغين والشهود في جرائم الفساد إلا لمن يريدون “الإفشاء الأبيض” قبل اليوم الأسود؟ وأزيدكم من الشعر بيتا؛ الهيئة العامة لمكافحة الفساد تدعو المواطنين لعدم التهاون في تقديم بلاغات جرائم الفساد إليها إن وجدت، بمعنى أن الإفشاء الأبيض “مشرعن” قانوناً وفيه ضمانات للمبلغين والشهود أيضا.
في الختام ليس في المستقبل القريب أي ضمان لأي شيء من الشعارات التي نسمع عنها عن مكافحة الفساد وتفعيل المحاسبة وبقية الشعارات الأخرى؛ لأنها ومن يرفعها على المحك دوما، فملف وزارة الصحة على المحك، وطريقة تعامل الهيئة العامة لمكافحة الفساد مع البلاغات المقدمة لها على المحك، والأشياء القليلة التي لا تحتاج إلى “حك” هي استمرار ملاحقة المبلغ وترك السارق، ورؤية أموال التأمينات المسروقة تصرف في أوروبا.