الواقع الاجتماعي متعدد الأبعاد وينطوي على صيغ مختلفة وعوامل مختلفة أيضا. عوامل ديموغرافية واقتصادية وتقنية وسياسية وأيديولوجية وغيرها. وقد يهيمن أي منها أو بعضها على الآخر في وقت ما، لكن حتما هناك نوع من التدوير لهذه الهيمنة، فلكل عامل سلطة في وقت ما، تعطي للواقع الاجتماعي شخصيته وطابعه وشكل التغييرات التي تجري فيه وتعقيداتها في عملية التدوير التي تليها، إلا أنه لا شيء ثابتا في عالم متحول بطبيعة الحال. وثقافة منطقتنا تحتاج إلى كثير من التوقف ودراسة الواقع الاجتماعي فيها. فلا يمكن اعتبار سبب تأخر بعض الدول ومجتمعاتها فكريا، فقط لأنها تأخرت بهذه البساطة فحسب، بل ربما الصيغة الأكثر ملاءمة لوصف ذلك هو أنها تحاول استزراع الشكل العالمي للتقدم الطبيعي بصورة يمكن أن نقول عنها إنها خارج الشروط التاريخية والثقافية والتكنولوجية، التي تنتمي إلى التقدم العالمي نفسه.
كل تقدم هو إما يأتي بصيغة تقدم جزئي أو محلي أو مؤقت، وفوق ذلك فهو تقدم ينتج الفوضى إذا جاء بدون تغيير فكري للمجتمعات ولواقعها. فالغرب بطبيعة الحال، مر بالتقدم على دفعات، ومر بتطورات اجتماعية هائلة مكنته من فلترة مخلفات نسخ فكرية تقدمية إنسانية رديئة، لا أظنه ينظر إليها الآن سوى ذكرى بائدة. بعضها وإن بقي في ترسبات العقل إلا أن الأنظمة والقوانين لا يمكن أن تعود بذلك إلى الوراء. إذن وإن كان الناس في أغلب المنطقة العربية يعيشون بآلات صناعية حديثة، إلا أنهم يعيشون فترة زمنية متأخرة عما مر به العالم المتقدم اجتماعيا، ولا سيما الحرب التي عاشوها منذ حروب القرون الوسطى الدموية الطاحنة التي جعلتهم يستيقظون إثر صدمات عنيفة. وهنا بإمكاننا أن نعرف المعنى الحقيقي للتقدم الذي نعنيه. التقدم الفكري الذي يشكل قاعدة عقل المجتمع المتقدم أساسا. فالنمو الاقتصادي والتقدم الإنساني متلازمان، لكن هناك عوامل أخرى أساسية للوصول إلى هذه التوليفة لا بد من أن تكون راسخة في الذهنية العامة للمجتمع.
بإمكان كل شيء أن يتغير من جديد بولادة جديدة. وقد لا يمكن حصر القضية بتحقيق التقدم، وإنما بإحداث ثورة داخل فكرة الثورة نفسها، وهي الثورة الفكرية لا السياسية حصرا. فآلية التغيير هي التي ينبغي أن تتغير. وبإمكاننا هنا العودة إلى فكر وأسئلة ثوار القرن الـ19 في أوروبا. لذا فإننا نحتاج إلى رؤية إصلاحية فكرية تتزامن ورؤى إصلاحية أخرى، رؤية تعزز من قدرة المجتمع على استقبال التغيرات الفكرية التي تواكب التطور الزمني للعالم ومن ثم استيعاب التغييرات. ولا يعني ذلك الانسلاخ الثقافي بل التماهي الحضاري مع الفترة الزمنية والتكنولوجية التي يعيشها العالم. لا شك أن فرض التغييرات من الأعلى بقرارات وقوانين وأنظمة بحد ذاتها العامل الأهم، متزامنا ورؤية للإصلاح الفكري الاجتماعي لترفع من نسبة نجاحها. هذا ما حدث بالفعل في العقود الماضية حين تم إصدار قرارات وأنظمة من الأعلى تماهى معها المجتمع وتمثلها بالتالي وإن كان تدريجيا. وهذا ما تحتاج إليه المجتمعات المنقسمة على ذاتها بين الرغبة من جانب بعضها والرفض من بعضها الآخر دون محاولات حاسمة. إن الرؤية الشاملة للمهمة وإن كانت صعبة في انطلاقتها، إلا أنها الطريق السالك لتسير عجلات التطوير محاذية بعضها بعضا فلا تنفلت عجلة عن المسار.