من المسلّم به في عالم السياسة أن الساحة السياسية لا تحتمل الفراغ، فإذا ما ترك أحد الأطراف موقعه فسرعان ما يقوم غيره بملء الفراغ الذي تركه، في هذا الإطار يمكن أن نفهم جانبا من جوانب الاتفاق الإيراني الأميركي.
لا يخفى على المراقبين أن الولايات المتحدة بدأت بتفعيل نهج جديد يقضي بالانسحاب التدريجي من المنطقة، بعد الخسائر التي منيت بها في عدد من المناطق، ولكي يكون هذا الانسحاب آمنا، ولا يعود بالضرر عليها، فإن عليها القيام بإعادة ترتيب المنطقة وفق موازين قوى وتحالفات جديدة، تمكنها من التعامل غير المباشر مع المنطقة بشكل يحفظ مصالحها.
ربما يكون الاتفاق الأخير هو من آخر الترتيبات الأميركية في المنطقة لاستكمال انسحابها الآمن، فالمصلحة الأميركية تحتم وجود عدد من القوى ذات النفوذ والتأثير، والضامنة لعدم تعريض مصالح الولايات المتحدة للخطر، كي تتمكن من التعامل مع المنطقة من خلالها، ومن هذه القوى تركيا وإسرائيل، ويفترض بعد الاتفاق أن تنضم إليهما إيران، لتصبح المنطقة تحت تجاذبات المشاريع السياسية لهذه الدول، التي لا تهدد بشكل مباشر المصالح الأميركية.
الكثير من التحليلات تشير إلى أن قوة إيران ستتعزز في المنطقة، وأن اقتصادها سيتطور، وخصوصا أن لديها أكثر من 100 مليار دولار مجمدة في المصارف الأجنبية، وأن ما بين 30 الى 50 مليار دولار من هذه العائدات سيُفرج عنها مباشرة بعد التوقيع على الاتفاق، كما أن لديها طموحا بأن تكون القوة الاقتصادية الأولى في المنطقة عام 2025.
لا شك في أن هذا الاتفاق يسجل في مصلحة إيران، حيث استطاعت أن تنتزع اعترافا دوليا بأهميتها وقوتها، وأن تكون محل أنظار وانتظار العالم، حيث أثبتت منفردة جدارتها وجديتها في مفاوضة خمس دول عظمى، وهذا ما قد يجعلها محل ثقة تلك الدول في المستقبل، ومن المؤكد أن ذلك سينعكس على دورها في إدارة العديد من الملفات في المنطقة بشكل يرسخ شرعيتها في التدخل والمشاركة.
من الواضح أننا على أعتاب مرحلة جديد يُعاد فيها ترتيب المنطقة، ومن هنا يبرز السؤال الأهم بالنسبة لنا، وهو: ما هي الاستعدادات الخليجية لهذه المرحلة؟ وما هو موقع دول الخليج من هذه الترتيبات الجديدة؟ وهل ستبقى في موقع المنفعل والمتفرج؟ أم أنها ستتحول إلى صانع للحدث وتواجه هذه الترتيبات والسياسات الجديدة بما يعزز مصالحها؟ ما هي نقاط القوة التي تمتلكها دول الخليج ــ غير النفط ــ يمكن من خلالها أن تكون مؤثرة في تحويل تلك الترتيبات لمصلحتها؟ وهل للأوضاع الداخلية لدول الخليج أثر على موقعها في تلك الترتيبات؟ من الضروري مواجهة مثل تلك الأسئلة بصراحة وشفافية، حتى لا نكون الحلقة الأضعف في المرحلة الجديدة!