بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)
مذكرة بدفاع
مسلم محمد البراك
في الطعن بالاستئناف رقم 1051/ 2013
على الحكم الصادر من محكمة أول درجة
في القضية رقم 15/2012 (أمن دولة)
مقدمة إلى المحكمة الموقرة بجلسة 13/5/2013
وتتضمن:
ــــ الدفع ببطلان إجراءات المحاكمة أمام محكمة أول درجة، وببطلان الحكم المستأنف
ــــ الدفع بعدم دستورية المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية
الوقائع
ــــ أسندت النيابة العامة إلى المتهم مسلم محمد البراك أنه في تاريخ 15/10/2012 بدائرة مباحث أمن الدولة:
“طعن علنا وفي مكان عام عن طريق القول في حقوق الأمير وسلطته وعاب في ذاته وتطاول على مسند الإمارة بأن وجه له خلال ندوة عامة العبارات والألفاظ المبينة بالأوراق وذلك على النحو المبين بالتحقيقات”.
ــــ وخلصت النيابة العامة إلى أن المتهم “قد ارتكب الجناية المؤثمة بالمادة (25) من القانون رقم (31) لسنة 1970 بتعديل بعض أحكام قانون الجزاء”، وطلبت النيابة العامة من محكمة الجنايات معاقبة المتهم طبقا لمادة الاتهام، وأرفقت بتقرير الاتهام ما وصفته بقائمة “بأدلة الثبوت”.
ــــ وفي تحقيقات النيابة العامة، أنكر المتهم جميع الاتهامات المسندة إليه، كما أنكرها أمام المحكمة الموقرة، وقد أوضح أمام النيابة العامة إن ما قاله إنما كان نصحا ولم يكن قصده الإساءة إلى الأمير.
ــــ كما طلب المتهم أمام النيابة العامة سماع شهادة كل من: رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح، والسيد أنس الصالح وزير التجارة والصناعة، والسيد خالد سلطان بن عيسى نائب رئيس مجلس الأمة السابق، والسيد وليد الجري، والسيد جمعان الحربش، والسيد أحمد الديين.
ــــ وبتاريخ 15/4/2013، أصدرت محكمة أول درجة حكمها المطعون عليه، والذي قضت فيه بحبس المتهم خمس سنوات مع الشغل والنفاذ.
ــــ وفور صدور الحكم، طعن المتهم عليه بطريق الاستئناف. وفي أول جلسة أمام محكمة الاستئناف بتاريخ 29/4/2013، قررت المحكمة وقف تنفيذ الحكم المطعون عليه لحين الفصل في الاستئناف، وقررت تأجيل نظر الدعوى لجلسة 13/5/2013 بناء على طلب الدفاع للاطلاع والاستعداد.
الدفاع
أولا: بطلان إجراءات المحاكمة التي جرت أمام محكمة أول درجة وبطلان الحكم المستأنف لعدم تمكين المتهم من ممارسة حق الدفاع
ــــ تنص المادة (7) من الدستور على التالي:
“العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع..”.
ــــ وتنص المادة (8) من الدستور أيضا على التالي:
“تصون الدولة دعامات المجتمع..”.
ــــ وتنص المادة (34) من الدستور أيضا على التالي:
“المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع..”.
ــــ وتنص المادة (162) من الدستور أيضا على التالي:
“شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك وضمان للحقوق والحريات”.
ــــ وتنص المادة (166) من الدستور أيضا على التالي:
“حق التقاضي مكفول للناس، ويبين القانون الإجراءات والأوضاع اللازمة لممارسة هذا الحق”.
ــــ وتنص المادة (120) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية على التالي:
“للمتهم في جناية الحق في أن يوكل من يدافع عنه، وعلى المحكمة أن تنتدب من المحامين من يقوم بهذه المهمة إذا لم يوكل أحدا..”.
ــــ وتنص الفقرة (3) من المادة (14) من القانون رقم (12) لسنة 1996 بالموافقة على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على التالي:
“لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته، وعلى قدم المساواة التامة، بالضمانات الدنيا التالية:
(د) أن يحاكم حضوريا وأن يدافع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام من اختياره..”.
ويتلخص مفاد النصوص السابقة في التالي:
ــــ إن ممارسة المتهم حقه في الدفاع ردا على اتهام جنائي موجه له، هو أصل دستوري لا يجوز لمشرع أو قاض إهداره تحت أي حجة أو ذريعة،
ــــ وهو إجراء لازم وجوهري لقيام المحاكمة العادلة المنصفة، فلا يجوز للقاضي أن يحول بين المتهم وبين ممارسة حقه في الدفاع عن نفسه أيا كانت دوافعه وأهدافه،
ــــ وهو إجراء يتعلق بالنظام العام ومن شأن إنكاره أن يلحق بالعدالة وبمصلحة المتهم أبلغ الضرر وأشده،
ــــ وتفعيلا للنصوص السابقة، وضمانا لمحاكمة منصفة عادلة تصان فيها حقوق المتهم ومصلحة العدالة، استقر رأي محكمة التمييز الكويتية، على أنه:
ــــ من “القواعد الأساسية التي أوجبها القانون حسبما نصت عليه المادة 120 من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية أن تكون الاستعانة بالمحامي إلزامية لكل متهم بجناية حتى يكفل له دفاعا حقيقيا لا مجرد دفاع شكلي تقديرا بأن الاتهام بجناية أمر له خطره، ولا تؤتى ثمرة هذا الضمان إلا بحضور محام أثناء المحاكمة ليشهد إجراءاتها وليعاون المتهم معاونة إيجابية بكل ما يرى تقديمه من أوجه دفاع..”.
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم 451 (جزائي) بتاريخ 10/5/2005)
(وفي الاتجاه ذاته، أنظر الحكم الصادر من محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 44169 لسنة 74 ق بتاريخ 5/12/2004)
ــــ وحيث إن الحكم المستأنف قد صدر بجلسة 15/4/2013 وحكمت المحكمة فيه بحبس المتهم خمس سنوات مع الشغل والنفاذ من دون منح المتهم أو من يدافع عنه فرصة لتقديم الدفاع القانوني،
ــــ وحيث إنه بالاطلاع على محضر جلسة 8/4/2013، وهي الجلسة السابقة على جلسة النطق بالحكم، يتبين أن هيئة الدفاع عن المتهم قد انسحبت من قاعة المحكمة في تلك الجلسة احتجاجا على رفض المحكمة تطبيق القانون تطبيقا محايدا،
ــــ وبعد انسحاب هيئة الدفاع، طلب المتهم من المحكمة تأجيل نظر الدعوى لتوكيل محام،
ــــ وحيث إن المحكمة رفضت طلبات المتهم، وقررت حجز الدعوى للنطق بالحكم بعد أسبوع،
ــــ وفور صدور قرار المحكمة بحجز الدعوى للنطق بالحكم، قدم المتهم طلبا بإعادة الدعوى للمرافعة لتمكينه من تعيين محام وتقديم دفاعه، كما تقدم المحامي عبدالرحمن البراك، وكيل المتهم، في اليوم التالي بطلب مماثل إلى المحكمة، إلا أن المحكمة رفضت تلك الطلبات،
ــــ وبالاطلاع على الحكم المستأنف، تبين أن المحكمة قد أقرت في الصفحتين (24 و25) أنها لم تمكن المتهم من تقديم دفاعه، وأوضحت المحكمة حجتها في ارتكاب تلك المخالفة القانونية الصارخة بقولها:
“فضلا عن امتناع المتهم وفريقه القانوني عن تقديم ثمة دفاع متفقين معا على تجميد المحاكمة مما تعتبره المحكمة القصد منه إطالة أمد التقاضي والمماطلة تجنبا لصدور الحكم لأجل غير مسمى خاصة وقد منحت المحكمة المتهم أجلا تلو الأجل لتقديم دفاعه ومكنته من طلب شهود الإثبات وحرصا من المحكمة على وضع حدود لمن يطوع القانون وفق رؤيته ويتعسف في استعمال حقه ولأجل أن توضع قواعد جديدة بالتعامل مستقبلا في مثل هذه الحالات النافرة تمضي المحكمة قدما وتقضي بالدعوى..”.
ــــ وحيث إنه من المقرر، وحسبما استقر عليه رأي محكمة التمييز، وعلى فرض أن المتهم وفريق الدفاع عنه كانوا يماطلون، كما ذهب الحكم المستأنف، فإنه كان واجبا عليها أن تعين للمتهم محاميا يتولى الدفاع عنه،
ــــ فقد قررت محكمة التمييز أنه:
“فإذا ما تبينت المحكمة أن المقصود من طلب التأجيل عرقلة سير القضية دون أية مصلحة حقيقية للدفاع، فلها الحرية التامة في التصرف بشرط ألا يترك المتهم بلا مدافع”.
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (51) 1993 (جزائي) بتاريخ 10/5/1993)
ــــ كما قررت محكمة النقض المصرية أنه:
“”فإذا ما تبينت المحكمة أن المقصود من طلب التأجيل عرقلة سير القضية دون أية مصلحة حقيقية للدفاع فلها الحرية التامة في التصرف بشرط ألا يترك المتهم بلا مدافع”.
(الحكم الصادر من محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 22764 لسنة 65 ق بتاريخ 10/12/1997)
وفي حكم آخر، خلصت محكمة النقض المصرية إلى أنه حتى لو اقتنعت المحكمة الابتدائية أن الدفاع عن المتهم يماطل في إجراءات الدعوى، وأن انسحابه من جلسة المحاكمة جاء في إطار تلك المماطلة، فإن للمحكمة أن تتصرف بشرط ألا تترك المتهم بلا مدافع.
“وإن كان من المقرر أن المتهم حر في اختيار محاميه وحقه في هذا مقدم على حق المحكمة في تعيينه، فإذا ما عهد المتهم إلى محام بمهمة الدفاع، فإنه يتعين على المحكمة أن تستمع إلى مرافعته أو أن تبيح له الفرصة للقيام بمهمته، بيد أن هذا المبدأ مشروط بعدم التعارض مع للمحكمة من المحافظة على عدم تعطيل سير الدعوى، فإذا ما تبينت المحكمة أن المقصود بطلب التأجيل عرقلة سير القضية دون أية مصلحة حقيقية للدفاع فلها الحرية التامة في التصرف بشرط ألا يترك المتهم بلا مدافع..”.
(الحكم الصادر من محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 9489 لسنة 70 ق بتاريخ 15/2/2007)
ـــ ومفاد ما سبق، وعلى الرغم من رفضنا لما خلصت إليه المحكمة بشأن نية المتهم ومقاصد فريق الدفاع عنه، فقد كان واجبا عليها تأجيل نظر الدعوى استجابة لطلب المتهم، أو في أقل الأحوال، تعيين محام يتولى تقديم الدفاع.
ــــ وإذ رفضت المحكمة طلب المتهم تأجيل نظر الدعوى لتمكينه من تعيين محام، ورفضت أيضا، عن عمد وقصد أفصحت عنهما في حكمها، تعيين محام للمتهم، فإن إجراءات المحاكمة تكون باطلة بطلانا مطلقا متعلقا بالنظام العام، ويبطل معها الحكم.
ــــ وعلى بطلان إجراءات المحاكمة وبطلان الحكم، استقر رأي محكمة التمييز الكويتية ومحكمة النقض المصرية، وبيان ذلك فيما يلي:
“وحيث إن الثابت من محضر جلسة المحاكمة بتاريخ 15/6/2005 عند نظر محكمة أول درجة معارضة المتهم في الحكم الغيابي الصادر ضده أنه طلب أجلا لتوكيل محام فلم تستجب المحكمة لطلبه وندبت محاميا للدفاع عنه اقتصر على طلب البراءة أصليا واحتياطيا استعمال الرأفة، فقضت بقبول معارضته شكلا ورفضها موضوعا وتأييد الحكم المعارض فيه. لما كان ذلك، وكانت المادة 120 من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية تنص على أن “للمتهم في جناية الحق في أن يوكل من يدافع عنه، وعلى المحكمة أن تنتدب من المحامين من يقوم بهذه المهمة إذا لم يوكل المتهم أحدا وهو إجراء جوهري يتعلق بالنظام العام ويترتب على مخالفته البطلان عملا بالمادة 146 من القانون ذاته. لما كان ذلك، وكان المتهم حرا في اختيار المحامي الذي يتولى الدفاع عنه وهو حق اصيل مقدم على حق المحكمة في تعيين محام له، فإن عدم استجابة المحكمة لطلب المتهم تأجيل نظر الدعوى حتى يتمكن من توكيل محام للدفاع عنه، دون أن تبدي سببا يبرر قرارها هذا، يبطل إجراءات المحاكمة ويستطيل هذا البطلان إلى الحكم الصادر بناء عليها”.
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (669) لسنة 2005 (جزائي) بتاريخ 30/5/2006)
“يبين من الاطلاع على محضر جلسة المحاكمة بتاريخ 16 من مايو 2004 أن الطاعن الثاني حضر أمام محكمة الجنايات ولم يحضر معه محام يشهد المحاكمة ويقوم بالدفاع عنه، ولما كان من المقرر وجوب حضور محام مع المتهم بجناية أمام محكمة الجنايات يتولى الدفاع عنه، فإن إجراءات المحاكمة تكون قد وقعت باطلة بما يعيب الحكم”.
(الحكم الصادر من محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 51395 لسنة 74 ق بتاريخ 24/7/2006)
ــــ بل إن محكمة التمييز الكويتية ومحكمة النقض المصرية استقر رأيهما على أنه حتى لو قامت المحكمة بتعيين محام يدافع عن المتهم، فإنه يشترط ألا يكون دفاعه مجرد دفاع شكلي. وفي هذا الاتجاه جاءت أحكام التمييز والنقض على النحو التالي:
“لما كان ذلك، وكان الدفاع المنتدب عن المحكوم عليه على السياق المتقدم هو مجرد دفاع شكلي مبتور لا يتحقق به ــ في صورة الدعوى ـــ الغرض الذي من أجله أوجب الشارع حضور محام مع المتهم بجناية ويقصر عن بلوغ هذا الغرض ويعطل حكمة تقريره، فإن إجراءات المحاكمة تكون قد وقعت باطلة بطلانا أثر في الحكم..”.
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (610) لسنة 2001 (جزائي) بتاريخ 4/6/2002)
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (386) لسنة 2002 (جزائي) بتاريخ 30/12/2003)
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (62) لسنة 2003 (جزائي) بتاريخ 28/9/2004)
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (177) لسنة 2003 (جزائي) بتاريخ 7/12/2004)
(الحكم الصادر من محكمة التمييز في الطعن رقم (79) لسنة 2003 (جزائي) بتاريخ 28/9/2004)
ــــ بل إن محكمة النقض المصرية انتهت إلى بطلان إجراءات المحاكمة والحكم حتى لو كان المتهم قد اختار من يدافع عنه، متى كان دفاع المحامي الموكل قد جاء مجرد دفاع شكلي مبتور، إذ قررت:
“لما كان ذلك، وكان ما أبداه المحامون الموكلون عن الطاعنين الثلاثة الأول من دفاع ــــ على السياق المتقدم ــــ لا يتحقق به في صورة الدعوى الغرض الذي من أجله أوجب الشارع حضور محام مع المتهم بجناية ويقصر عن بلوغ هذا الغرض ويعطل حكمة تقريره، فإن إجراءات المحاكمة تكون قد وقعت باطلة بطلانا أثر في الحكم”.
(الحكم الصادر من محكمة النقص المصرية في الطعن رقم 44169 لسنة 74 ق بتاريخ 5/12/2004)
ــــ وتأكيدا لحق المتهم في طلب تأجيل نظر الدعوى لتوكيل محام أو لحضور محاميه الموكل، أكدت محكمة التمييز:
“الأصل إنه إذا لم يحضر المحامي الموكل عن المتهم وندبت المحكمة محاميا آخر ترافع في الدعوى، فإن ذلك لا ينطوي على بطلان في الإجراءات ولا يعد إخلالا بحق المتهم في الدفاع مادام لم يبد اعتراضا على هذا الإجراء، أو يتمسك أمام المحكمة بطلب تأجيل نظر الدعوى حتى يحضر محاميه الموكل”.
(الحكم الصادر في الطعن بالتمييز رقم 299 لسنة 2005 (جزائي) بتاريخ 27/12/2005)
ــــ أي أنه متى ما طلب المتهم تأجيل نظر الدعوى لتوكيل محام يختاره هو، أو لحضور محاميه الموكل، فلا تملك المحكمة رفض طلب التأجيل أو حتى ندب محام بديل.
ــــ وحيث إن الثابت في الدعوى الماثلة أن المتهم طلب تأجيل نظر الدعوى لتوكيل محام،
ــــ والثابت أيضا أن المحكمة لم تستجب لطلب المتهم،
ــــ والثابت أيضا أن المحكمة لم تندب محاميا يتولى الدفاع عن المتهم بعد انسحاب فريق الدفاع الموكل،
فإن إجراءات المحاكمة تضحى باطلة بطلانا مطلقا لتعلقه بالنظام العام، ويضحى الحكم المستأنف باطل بدوره.
ــــ ومما يلفت الانتباه في الحكم المستأنف، أن المحكمة كشفت عن إدراكها ويقينها ببطلان إجراءاتها وبطلان حكمها مقدما، ففي صدد تبرير رفضها تأجيل الدعوى أو ندب محام، قالت المحكمة في حكمها:
“… وحرصا من المحكمة على وضع حدود لمن يطوع القانون وفق رؤيته ويتعسف في استعمال حقه ولأجل أن توضع قواعد جديدة بالتعامل مستقبلا في مثل هذه الحالات النافرة تمضي المحكمة قدما وتقضي بالدعوى”.
ــــ إن قول المحكمة أنها تريد وضع “قواعد جديدة بالتعامل مستقبلا”، هو إقرار صريح منها بمخالفتها القانون المعمول به والقواعد التي أقرتها محكمة التمييز، وهذا بذاته كفيل بإبطال حكمها.
ــــ وبالطبع ليس من حق المحكمة الابتدائية أن تعمل على وضع قواعد جديدة لأن هذه هي مهمة المشرع لا القاضي، ولا مجال للاجتهاد بوجود النص، ولا مجال لتفسير النص متى كان واضح الدلالة من دون حاجة لتفسير.
ــــ وليس من حق المحكمة الابتدائية الامتناع عن تطبيق القانون القائم أيا كان رأيها في هذا القانون.
ــــ وليس من حق المحكمة الابتدائية مخالفة المبادئ التي استقرت عليها محكمة التمييز.
ــــ والأهم مما سبق كله أن مفاد القاعدة الجديدة التي أرادت المحكمة الابتدائية وضعها هي أنه إذا رأت المحكمة أن المتهم أو المدافع عنه يماطل في الدعوى، فللمحكمة الحق في مصادرة حق المتهم في الدفاع عن نفسه، وذلك عن طريق إصدار الحكم في الدعوى دون تعيين محام يدافع عنه كنوع من العقاب!
ــــ إن هذه “القاعدة الجديدة” لا تنتمي إلى الجيل الحالي من حقوق الإنسان، بل هي أقرب إلى عهد المحاكمات الصورية السائدة في الدول الديكتاتورية.
ثانيا: الأثر الناتج عن الحكم ببطلان حكم محكمة أول درجة وبطلان إجراءات المحاكمة
ــــ من العرض السابق لمسار الدعوى أمام محكمة أول درجة، وبيان مخالفتها للقانون ولما استقر عليه رأي محكمة التمييز، فإن إجراءات المحاكمة والحكم الصادر في الدعوى يعتورهما البطلان المطلق المتعلق بالنظام العام.
ــــ وإذا كان سبب البطلان هو حرمان محكمة أول درجة المتهم من حقه في تقديم دفاعه أمامها، فإن مفاد هذا الحرمان أن المتهم لم يحصل على ما قررته المادة (34) من الدستور، وهو حقه في محاكمة عادلة تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.
ــــ وإذا كان البطلان هو جزاء مقرر في حالة مخالفة أحكام القانون المتعلقة بإجراء جوهري، مثل مصادرة حق المتهم في الحصول على محاكمة عادلة، ومصادرة حقه في الدفاع عن نفسه من خلال المحامي الذي يختاره أو من خلال محام تعينه له المحكمة بحسب الأحوال، فإن تصدي محكمة الاستئناف لموضوع الدعوى بعد تقرير بطلان إجراءات المحاكمة وبطلان الحكم، من شأنه تكريس البطلان، بل من شأنه أن يجعل تقرير بطلان الحكم بلا قيمة قانونية، بل أن الحكم ببطلان إجراءات المحاكمة التي تمت أمام محكمة أول درجة، والحكم ببطلان حكم تلك المحكمة، ثم قيام محكمة الاستئناف بالتصدي لموضوع الدعوى، هو في واقع الأمر إفراغ لفكرة البطلان من محتواها، وتجريد للنظام العام من قيمته، وتنكر للمشروعية، وإنكار للحقوق الدستورية.
ــــ ولا يمكن القول بأن تصدي محكمة الاستئناف لموضوع الدعوى، بعد الحكم ببطلان إجراءات المحاكمة التي تمت أمام محكمة أول درجة وبطلان الحكم الابتدائي، لا يتعارض مع أصول المحاكمة العادلة، ففضلا عن حرمان المتهم من حق التقاضي على درجتين، فإن المتهم يمثل أمام محكمة الاستئناف وهو مدان بموجب حكم باطل، وبالتالي فإنه لا يستفيد حقيقة من الأصل الدستوري القائم على افتراض البراءة.
فمن المقرر أن “الأصل البراءة يعتبر قاعدة أساسية في النظام الاتهامي، لا ترخص فيها، تفرضها حقائق الأشياء وتقتضيها الشرعية الإجرائية وحماية الفرد في مواجهة صور التحكم والتسلط والتحامل..”.
(الحكم الصادر من محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 7565 لسنة 67 ق بتاريخ 4/12/2005)
وقررت المحكمة الدستورية المصرية:
“.. وحيث إن ضوابط المحاكمة المنصفة -المنصوص عليها في المادة (67) من الدستور- تتمثل في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاماً متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، فلا تنفصل عنها عدوانا، ولضمان أن تتقيد الدولة – عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي – بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها..”.
(قضية رقم 10 لسنة 18 قضائية، المحكمة الدستورية العليا “دستورية” 16 نوفمبر سنة 1996)
كما قررت المحكمة ذاتها:
“.. وضمانة الدفاع هذه هي التي اعتبرها الدستور ركنا جوهريا في المحاكمة المنصفة التي تطلبها في المادة (67) منه كإطار للفصل في كل اتهام جنائي تقديرا بأن صون النظام الاجتماعي ينافيه أن تكون القواعد التي تقررها الدولة في مجال الفصل في هذا الاتهام مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، وانطلاقا من أن انكار ضمانة الدفاع أو فرض قيود تحد منها إنما يخل بالقواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة، والتي تعكس نظاما متكامل الملامح يتوخى صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها. كما ينال الإخلال بضمانة الدفاع من أصل البراءة، ذلك أن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك – ومن ناحية أخرى – وثيقة الصلة بالحق في الدفاع وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها، وهو ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة وقررته النصوص الصريحة للتعديل السادس للدستور الأمريكي والمادة (6) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان..”.
(قضية رقم 6 لسنة 13 قضائية، المحكمة الدستورية العليا “دستورية” 16/5/1992)
ــــ وحيث إن مناط تقرير بطلان الإجراءات وبطلان الأحكام هو وقوع الضرر،
وحيث إنه من المقرر أن الضرر المعتبر في صدد بطلان الإجراء هو الضرر الذي يؤدي إلى تفويت المصلحة التي قصدها القانون كما قررت محكم التمييز في الحكم الصادر في الطعن بالتمييز رقم 86 لسنة 1997 (مدني) بتاريخ 20/1/1998.
ــــ وحيث إن إنكار محكمة أول درجة حق المتهم في إبداء دفاعه، وإصرارها على إصدار الحكم في الدعوى دون أن تتيح للمتهم فرصة توكيل محام يدافع عنه، ودون أن تقوم هي بتعيين محام، إنما تسبب بإلحاق الضرر بالمتهم خلال نظرها القضية أمامها، أي أن الإجراء الباطل التي اتخذته المحكمة الابتدائية المتمثل في إصدار الحكم بغير الاستماع إلى دفاع المتهم، ألحق الضرر بالمتهم في ذات درجة التقاضي، وهذه واحدة من أسباب تقرير بطلان الحكم وبطلان إجراءات المحاكمة، إذ لو استمعت محكمة أول درجة لدفاع المتهم لربما تغير وجه الرأي في الاتهام، ولربما أصدرت حكما ببراءة المتهم.
ــــ وبالتالي فإنه إذا تصدت محكمة الاستئناف لموضوع الدعوى، بعد الحكم ببطلان إجراءاتها وبطلان الحكم الصادر فيها، فإنها تكون قد ثبتت وكرست الضرر الذي لحق بالمتهم أمام محكمة أول درجة، وفي هذا التصدي تهدر محكمة الاستئناف قاعدة جوهرية من قواعد المحاكمة المنصفة العادلة، وتحرمه من درجة من درجات التقاضي، وليس صحيحا القول إن مجرد إلغاء الحكم المستأنف بسبب بطلانه، يجبر الضرر الذي لحق بالمتهم. فالضرر هنا هو حرمانه من حقه في تقديم دفاعه أمام محكمة أول درجة، ولا يمكن اعتبار تقديم هذا الدفاع أمام محكمة الاستئناف بعد تقرير بطلان الحكم الابتدائي، بمثابة جبر للضرر، ذلك أن تصدي محكمة الاستئناف يضاعف البطلان ولا يزيله.
وقد قررت محكمة التمييز أن:
“لكل درجة من درجات التقاضي إجراءاتها المستقلة عن الأخرى فلا يجوز الخلط بين الإجراءات التي تتبع أمام كل منها”.
(الحكم الصادر في الطعن بالتمييز رقم (738) (تجاري) بتاريخ 17/11/2001)
ــــ فضلا عما سبق، فإن تقرير بطلان إجراءات المحاكمة التي تمت أمام محكمة أول درجة من شأنه أن يمنع محكمة الاستئناف من المضي قدما في نظر الدعوى والتصدي لموضوعها، ذلك أن هذا التصدي سيكون مستندا على إجراءات قُضي ببطلانها، وهو ما لا يجوز.
ــــ وفي سبيل منح المتهم حقه في الحصول على محاكمة عادلة توفر له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع، قررت محكمة التمييز في أحد أحكامها بطلان الحكم “لقيام المحاكمة على إجراءات معيبة من شأنها حرمان الطاعن من استعمال حقه في الدفاع، وهو ما كان يتعين معه على محكمة الاستئناف عند نظر الاستئناف المرفوع إليها عن هذا الحكم أن تقضي ببطلانه وبإعادة القضية إلى محكمة أول درجة لنظر المعارضة حتى لا يحرم الطاعن من إحدى درجتي التقاضي، أما وهي لم تفعل وقضت بتأييد الحكم المستأنف على الرغم من بطلانه فإن حكمها يكون، فضلا عما أمتد إليه من بطلان، قد أخطأ في تطبيق القانون..”.
(الحكم الصادر في الطعن بالتمييز رقم 254 لسنة 1997 (جزائي) بتاريخ 18/5/1998)
ــــ ويستفاد من القاعدة السابقة التي أقرتها محكمة التمييز أنه إذا كان بطلان الحكم الابتدائي قد تحقق بسبب إقامته على إجراءات محاكمة باطلة، وكان من شأن تلك الإجراءات الباطلة حرمان المتهم من استعمال حقه في الدفاع، فإنه يتوجب على محكمة الاستئناف إعادة القضية إلى محكمة أول درجة حتى لا تفوت على المتهم فرصة التقاضي على درجتين.
ــــ لذلك، فقد قُضي بأن بطلان الحكم بسبب التناقض في التسبيب لا يستدعي إعادة القضية إلى محكمة أول درجة. كذلك قُضي بأن بطلان الحكم بسبب إغفال ذكر نص القانون الذي تم بموجبه عقاب المتهم لا يستدعي إعادة القضية إلى محكمة أول درجة.
ــــ وبعبارة أخرى، فإن “بطلان الحكم” لأسباب تتعلق بالحكم ذاته”، يختلف أثره عن “بطلان الحكم بسبب بطلان إجراءات المحاكمة”، فمتى كانت “إجراءات المحاكمة باطلة”، فإن بطلان الحكم هو نتيجة حتمية، وهنا يتوجب على محكمة الاستئناف إعادة القضية إلى محكمة أول درجة بعد تقريرها بطلان الإجراءات، أما في حالة بطلان الحكم فقط دون إجراءات المحاكمة، فإن على محكمة الاستئناف أن تصدر حكما جديدا في الدعوى بعد تقريرها بطلان الحكم.
ــــ إن القاعدة السابقة هي نتاج التطبيق الصحيح لنص المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، وهي أيضا نتاج التدقيق في الأحكام التي أصدرتها محكمتي الاستئناف والتمييز.
ــــ ولو عدنا إلى المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، سنجد أنها تنص على التالي:
“للمحكمة أن تحكم بإلغاء الحكم المستأنف، إذا وجدت به عيبا موضوعيا أو عيبا شكليا لا يمكن تصحيحه، أو وجدت أنه مخالف للقانون، سواء كان المستأنف قد تمسك بهذه العيوب أو أن المحكمة قد لاحظتها من تلقاء نفسها. وعليها في هذه الحالة أن تصدر حكما جديدا في الدعوى، دون أن تتقيد بأي شيء مما ورد في الحكم الابتدائي”.
ــــ ويلاحظ هنا أن نص المادة (209) يرشد محكمة الاستئناف إلى كيفية التعامل في حالة وجود عيب موضوعي أو شكلي (في الحكم) لا يمكن تصحيحه، بأن عليها أن تصدر حكما جديدا.. لكن النص لا يتضمن بيانا لكيفية التعامل في حالة (بطلان إجراءات المحاكمة)، ذلك أنه من البديهي في هذه الحالة أن تأمر محكمة الاستئناف بإعادة القضية إلى محكمة أول درجة، بعد أن تحكم ببطلان إجراءات المحاكمة التي تمت أمام محكمة أول درجة وبطلان الحكم المستأنف، لأن تصديها للفصل في الموضوع رغم بطلان إجراءات المحاكمة، يمثل التفافا على حق المتهم في التقاضي على درجتين.. والمتهم، في الاستئناف الماثل، لم يتمكن من تقديم دفاعه أمام محكمة أول درجة بسبب الإجراءات الباطلة التي اتبعتها تلك المحكمة، ومن ثم وجب إعادة القضية لدائرة أخرى في محكمة أول درجة للفصل فيها وفق الإجراءات القانونية.
ــــ ولو قيل بغير ذلك، وإنه على محكمة الاستئناف أن تتصدى للموضوع رغم بطلان إجراءات المحاكمة، فإن هذا يعني أنه لا جزاء على البطلان، ولا قيمة له ولا أثر رغم كونه متعلقا بالنظام العام.
ــــ إن حرمان المتهم من تقديم دفاعه أمام محكمة أول درجة يؤدي إلى بطلان إجراءات المحاكمة وبطلان الحكم الناتج عنها، وإذا قيل إن هذا البطلان، رغم وقوعه، يؤدي إلى حرمان المتهم من حقه في التقاضي على درجتين، فإن في هذا القول مخالفة صارخة للمادة (34) من الدستور التي ركزت على توفير ضمانات الدفاع بنصها على أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع..”.
فإذا ما كانت محاكمة المتهم أمام محكمة أول درجة قد تمت وفق إجراءات باطلة نتج عنها حرمانه من ممارسة حق الدفاع، فإن المنطق والقانون يفرضان على محكمة الاستئناف أن تعيد الدعوى إلى محكمة أول درجة حتى لا تفوت على المتهم فرصة إبداء دفاعه أمامها على نحو قد يؤدي إلى تغيير وجه الرأي في الاتهام المسند إليه.
ليس هذا فحسب، بل أنه يجدر الانتباه إلى أن الفهم الصحيح والتطبيق السليم لنص المادة (209) من قانون الإجراءات لا يستقيمان إلا إذا ربطنا نص تلك المادة بنص المادة (146) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية الذي يجري على النحو التالي:
“إذا تبين للمحكمة أن إجراء من إجراءات الدعوى أو التحقيق به عيب جوهري، فلها أن تأمر ببطلانه وإعادته، أو أن تقضي بتصحيح العيب الذي لحقه كلما كان ذلك ممكنا، ولا يجوز الحكم ببطلان الإجراء إذا لم يترتب على العيب الذي لحقه أي ضرر بمصلحة العدالة أو الخصوم.
وللمحكمة أن تصدر حكما بعدم قبول الدعوى الجزائية التي قدمت إليها قبل إجراء تحقيق فيها أو أثناء التحقيق، إذا وجدت أن بها عيبا شكليا جوهريا لا يمكن تصحيحه ولا إعادة الإجراء المعيب”.
إن نص المادة (146) من قانون الإجراءات يضع القاعدة العامة للبطلان في الإجراءات الجزائية، ومفاد تلك القاعدة فيما يلي:
ــــ لا يحكم ببطلان الإجراء إلا إذا نتج عن البطلان ضرر بالنظام العام (مصلحة العدالة)، أو بمصلحة الخصوم.
ــــ إذا كان تصحيح العيب الذي لحق الإجراء ممكنا، فللمحكمة أن تقضي بتصحيحه.
ــــ إذا كان تصحيح العيب الذي لحق الإجراء غير ممكن، فعلى المحكمة أن تقضي ببطلانه وإعادته.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإنه لا يفوت على المحكمة الموقرة بالطبع، أن نص المادة (146) من قانون الإجراءات يتحدث عن (بطلان إجراءات الدعوى والتحقيق)، في حين يتحدث نص المادة (209) عن (بطلان الحكم الابتدائي).
ولما كان الثابت يقينا أن إجراءات المحاكمة أمام محكمة أول درجة قد جاءت باطلة بطلانا مطلقا لتعلقه بالنظام العام، إذ نتج عن ذلك البطلان في الإجراءات حرمان المتهم من ممارسة حقه في الدفاع، وهذا ضرر جسيم لحق بخصم في الدعوى، كما أن البطلان ألحق الضرر بمصلحة العدالة (النظام العام)،
وحيث إنه لا يمكن تصحيح البطلان الذي لحق إجراءات المحاكمة قبل صدور الحكم،
وحيث إن صدور الحكم الابتدائي بناء على إجراءات باطلة بطلانا مطلقا متعلقا بالنظام العام من شأنه ألا يعتد به كدرجة أولى للتقاضي، ولا يجوز لمحكمة الاستئناف تصحيح هذا البطلان.
(الحكم الصادر من محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 14285 لسنة 62 ق بتاريخ 1/6/2003)
وبناء على ما سبق، فإنه يتعين، وفقا للمادة (146) المشار إليها، إلغاء الحكم المستأنف بسبب بطلان الإجراءات الذي أدى بدوره إلى بطلان الحكم، ومن ثم الحكم بإعادة الدعوى إلى محكمة أول درجة لمحاكمة المتهم وفق إجراءات قانونية صحيحة.
ثانيا: الدفع بعدم دستورية المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية
ــــ وإذا رأت محكمة الاستئناف أن نص المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية يلزمها بالتصدي لموضوع الدعوى وإصدار حكم جديد فيها بعد الحكم ببطلان إجراءات المحاكمة التي تمت أمام محكمة أول درجة وبطلان الحكم المستأنف،
فإن الدفاع عن المتهم يدفع بعدم دستورية نص المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية لمخالفتها نص المادة (34) من الدستور، وبيان سبب الدفع فيما يلي:
ــــ تنص المادة (34) من الدستور على أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع..”.
ــــ وبهذا النص، يكون المشرع الدستوري قد أفصح، بوضوح شديد، أن أهم مقومات المحاكمة القانونية العادلة هي توفير الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع، بما مؤداه أن أي محاكمة لا يتم خلالها توفير الضمانات للمتهم لممارسة حقه في الدفاع عن نفسه هي محاكمة غير قانونية وغير عادلة.
ــــ وإذا كان مفاد نص المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية حرمان المتهم من حقه في الحصول على محاكمة عادلة، ومصادرة حقه في تقديم دفاعه أمام محكمة أول درجة، وحرمانه من حقه القانوني في التقاضي على درجتين، وهو الحق الذي قررته المادة (3) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، إذ قررت “المحاكم الجزائية على درجتين:
أولاـــ محاكم الدرجة الأولى، وهي محكمة الجنح ومحكمة الجنايات.
ثانيا ـــ المحاكم الاستئنافية، وهي محكمة الجنح المستأنفة ومحكمة الاستئناف العليا”.
فإن نص المادة (209) المشار إليه يضحي غير دستوري لإخلاله بضمانات المحاكمة المنصفة وضمانات ممارسة حق الدفاع، وذلك لتعارضه مع نص المادة (34) من الدستور.
فالمحاكمة العادلة المنصفة التي يتاح فيها للمتهم ممارسة حقه في الدفاع، هي أصل دستوري لا يمكن قبول إسقاطه أو تجاوزه أو الالتفاف عليه تحت أي حجة أو ذريعة،
ويعد تصدي محكمة الاستئناف لموضوع الدعوى، بعد الحكم ببطلان إجراءات المحاكمة التي تمت أمام محكمة أول درجة، وبطلان الحكم الصادر من محكمة أول درجة بسبب حرمان المتهم من ممارسة حقه بالدفاع عن نفسه أمام قاضيه الطبيعي، يعد انتهاكا صريحا للأصل الدستوري بشأن المحاكمة العادلة، وانتهاكا أيضا للأصل الدستوري بتوفير الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.
ــــ كما أن نص المادة (209) من قانون الإجراءات يتعارض مع نص المادة (166) من الدستور التي تنص على التالي:
“حق التقاضي مكفول للناس، ويبين القانون الإجراءات والأوضاع اللازمة لممارسة هذا الحق”.
ــــ ويتضح التعارض بين نص المادة (209) من قانون الإجراءات ونص المادة (166) من الدستور من خلال مصادرة المادة (209) المشار إليها لحق التقاضي الذي كفلته المادة (166) من الدستور، فحق التقاضي في الجنايات، وفق المادة (166) من الدستور، يجب أن يمارس وفق الإجراءات والأوضاع التي حددتها المادة (3) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، أي وفق قاعدة التقاضي على درجتين. وبذلك لا يجوز للمشرع في المادة (209) من قانون الإجراءات إهدار حق التقاضي وفق القانون، وهو الحق الذي كفلته المادة (166) المشار إليها.
ــــ وفي هذا الاتجاه، قررت المحكمة الدستورية الكويتية أنه:
“وحيث إن ضمانة الفصل إنصافا في المنازعات على اختلاف أنواعها تمتد إلى كل خصومة قضائية سواء كانت جنائية او مدنية أو إدارية، وقوامها أن يكون تحقيقها وحسمها عائدا إلى جهة القضاء أو إلى هيئة أولاها المشرع الاختصاص بالفصل فيها بعد أن كفل استقلالها وحيدتها وأحاط ما يصدر عنها من قرارات بضمانات التقاضي، ولما كان ذلك، وكان العمل القضائي إنما يصدر بعد ادعاء مخالفة القانون، ويفصل فيه من هيئة تتوافر في أعضائها ضمانات الحيدة والاستقلال، ليست طرفا في النزاع المعروض عليها، عهد إليها بسلطة الفصل في خصومة قضائية بقرارات حاسمة ودون إخلال بالضمانات الأساسية التي تقوم في جوهرها على إتاحة الفرصة لتحقيق دفاع أطرافها وتمحيص ادعاءاتهم على أساس قاعدة قانونية نص عليها المشرع..”.
(الحكم الصادر من المحكمة الدستورية بتاريخ 27/5/2007 في الطعن رقم (16) لسنة 2006)
وبشأن أهمية تأمين وضمان حق الدفاع، قررت المحكمة الدستورية في مصر:
“والحق أن دور ضمانة الدفاع في تأمين حقوق الفرد وحرياته يبدو أكثر لزوماً في مجال الاتهام الجنائي باعتبار أن الإدانة التي قد يؤول إليها قد تفصل من الناحية الواقعية بينه وبين الجماعة التي ينتمي إليها منهية -أحياناً آماله المشروعة في الحياة، ويتعين بالتالي أن يكون حق النيابة العامة في تقديم أدلة الاتهام موازناً بضمانة الدفاع التي يتكافأ بها مركز المتهم معها في إطار النظام الاختصامي للعدالة الجنائية كي يتمكن بوساطتها من مقارعة حجمها ودحض الأدلة المقدمة منها. ولقد غدا أمراً مقضياً أنه إذا كان حق الدفاع -في هذا المجال-يعنى في المقام الأول حق المتهم في سماع أقواله، فإن حق الدفاع يغدو سراباً بغير اشتماله على الحق في سماعه عن طريق محاميه،
وحيث إن النصوص التي أوردها الدستور في شأن حق الدفاع على النحو السالف بيانه تتضافر جميعها في توكيد أن هذا الحق ضمانة أساسية يوفر الدستور من خلالها الفعالية لأحكامه التي تحول دون الإخلال بحقوق الفرد وحرياته بغير الوسائل القانونية التي يقرها الدستور سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية وهى بعد حماية تؤمن لكل مواطن حماية متكافئة أمام القانون وتعززها الأبعاد القانونية لحق التقاضي الذى قرر الدستور في المادة (68) انصرافه إلى الناس كافة، مسقطاً عوائقه وحواجزه على اختلافها، وملقياً على الدولة بمقتضاه التزاما أصيلاً بأن تكفل لكل متقاض نفاذاً ميسراً إلى محاكمها للحصول على الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق التي يدعيها أو الإخلال بالحرية التي يمارسها، وكان حق الدفاع- بالنظر إلى أبعاده وعلى ضوء الأهمية التي يمثلها في بلورة الدور الاجتماعي للقضاء كحارس للحرية والحقوق على اختلافها انتقالاً بمبدأ الخضوع للقانون من مجالاته النظرية إلى تطبيقاته العملية -قد أضحى مستقراً كحقيقة مبدئية لا يمكن التفريط فيها، مندرجاً في إطار المبادئ الأساسية للحرية المنظمة، واقعاً في نطاق القيم التي غدا الإيمان بها راسخاً في وجدان البشرية، وكانت ضمانة الدفاع بالتالي لم تعد ترفاً يمكن التجاوز عنه، فإن التعلق بأهدابها الشكلية دون تعمق لحقائقها الموضوعية يعتبر إنكاراً لمضمونها الحق مصادماً لمعنى العدالة منافياً لمتطلباتها، ومن ثم لم يجز الدستور للسلطة التشريعية إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه بما يعطل فعاليته أو يحد منها، كاشفاً بذلك عن أن إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها بما يخرجها عن الأغراض المقصودة منها، إنما يؤول في أغلب صوره إلى إسقاط الضمانة التي كفلها الدستور لكل مواطن في مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، ويعرض حق الإنسان في الحياة والحرية الشخصية والكرامة الواجبة لصون آدميته لمخاطر مترامية في أبعادها عميقة في آثارها، وهو ما يعتبر هدماً للعدالة ذاتها بما يحول دون وقوفها سوية على قدميها، سواء كان الإنكار أو التقييد منصرفاً إلى حق الدفاع بالأصالة – بما يقوم عليه من ضمان الحرية الكاملة لكل فرد في أن يعرض وجهة نظره في شأن الوقائع المنسوبة إليه وأن يبين حكم القانون بصددها -أم كان متعلقاً بالدفاع بالوكالة- حين يقيم الشخص باختياره محامياً يراه أقدر على تأمين المصالح التي يرمى إلى حمايتها، على أساس من الخبرة والمعرفة القانونية والثقة..”.
وأضافت:
“.. وحيث إن ضمانة الدفاع وإن كانت لا ترتبط لزوماً بمرحلة المحاكمة وحدها كما سلف القول، إلا أن الخصومة القضائية تمثل مجالها الأكثر أهمية من الناحية العملية، وما يحتم انسحابها إلى كل دعوى سواء كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية أم كان الاتهام الجنائي موضوعها. ولقد كان تقدير هذه المحكمة لحق الدفاع وإقرارها لأهميته واضحاً في مجال تحديدها للشروط التي يتعين استجماعها لاعتبار العمل قضائياً، وذلك بما جرى قضاؤها من أن القرار الذي يصدر عن جهة خولها المشرع ولاية الفصل في نزاع معين، لا يكون قراراً قضائياً إذا كانت ضمانة الدفاع غائبة عن النصوص القانونية التي تنظم هذه الولاية وتبين حدودها..”.
(قضية رقم 6 لسنة 13 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية” بتاريخ 16/5/1992)
وبناء على ما سبق، يضحى الدفع بعدم دستورية المادة (209) من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، جدي بما يكفي للحكم بوقف نظر الاستئناف، وإحالة الدفع إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه.
لذلك
نطلب من المحكمة الموقرة:
أصليا: الحكم بقبول الاستئناف شكلا، وبإلغاء الحكم المستأنف وتقرير بطلانه وبطلان إجراءات المحاكمة التي جرت أمام محكمة أول درجة، وبإعادة الدعوى إلى محكمة أو درجة لتنظرها دائرة جديدة وفق إجراءات قانونية صحيحة.
احتياطيا: قبول الدفع بعدم دستورية نص المادة (209) من قانون الإجراءات، وإحالة الدفع إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه، ووقف نظر الاستئناف لحين صدور حكم المحكمة الدستورية في الدفع.
ومن باب الاحتياط الكلي، وفي حال رفضت المحكمة الدفوع الواردة في هذه المذكرة، وقررت التصدي لموضوع الاستئناف: تحديد جلسة لنظر الموضوع وتقديم الدفاع.
وكيل المتهم
محمد عبدالقادر الجاسم
المحامي