كدخان سيجارة، تطايرت في الهواء هيبة بعض الصور الذهنية والمصطلحات المخيفة، منها مصطلح "قضية أمن دولة"، وصورة "فلاشرات" سيارات الشرطة وصوت صافراتها، وتجمعات عساكر القوات الخاصة، وقبلها استجواب الوزراء، بل حتى مكانة الوزير في أذهان الناس، وإدراكهم لدوره في اتخاذ القرار أصبحا مثار شفقة (لم أقل ازدراء، فلا تتقولوا علي وترجموني بالقضايا).
ورحم الله أياماً كانت فيها عيوننا تخرج من محاجرها عند قراءة خبر "قضية في المخفر الفلاني". وكانت الأخبار الأمنية أكثر المواضيع مشاهدة وقراءة في الصحف… وتسارعت الأحداث، فأصبح الحجز في أقسام الشرطة خبراً لا يستحق أن تصرف عليه ثواني معدودات من وقت قراءتك… وتسارعت الأحداث أكثر فبات الحديث عن الحجز في مبنى المباحث الجنائية أقل من أن تُشغل به رواد الديوانية، دع عنك الحديث عن الحجز في مخفر الشرطة… وتسارعت الأحداث أكثر وأكثر فأضحى الحديث عن قضايا أمن الدولة المرفوعة ضد السياسيين، وحجزهم في مبنى أمن الدولة، حديث من لا حديث له، لا يرقى إلى أن يكون موضوع نقاش على طاولة مطبخ سيدتين متقابلتين تحشوان الكوسا، وكيلو الكوسا بربع دينار، وقضايا أمن الدولة بنصف كيلو كوسا.
وسقى الله أياماً كانت ابنتي تبكي هلعاً وتتشبث بذراعي، كلما مرت إلى جانبنا "دورية شرطة" تجتازنا مسرعة، بصوت صافرتها ووميض "فلاشرها"… وها نحن نصل إلى وقت نتبادل فيه الحديث الضاحك على وقع صافرات سيارات الشرطة ووميض فلاشراتها، وخلفية قرع دروع القوات الخاصة، ودخان قنابلها المسيلة للدموع، فيقول أحدنا للآخر بعد تبادل القبلات والتحايا أثناء تجمع: "سمنان ما شاء الله (أي أن صحتك تتعافى)"، فيرد الآخر ضاحكاً: "الحب وسنينه يا عزيزي"، فيقهقه الأول: "لله در الكويتيين، حتى حبهم مختلف، الآخرون يجلب لهم الحب أمراض الوهن والهزال، أما الكويتيون فيتعافون وتتورد وجوههم" وتجلجل الضحكات الصادقة والمجامِلة.
وكانت الكويت تتجمد عند استجواب وزير، أو حتى التهديد باستجوابه… ووصلنا إلى لحظات نشفق فيها على من يتحدث عن استجواب رئيس الوزراء.
العجلة تدور وتدهس بعض المفاهيم القديمة، وكثيراً من الصور الذهنية السائدة، فتقل قيمتها في أذهان الناس، بينما ترفع "الكوسا" أسعارها، وتمد رأسها بشموخ قائد أناضولي.