إن استخدام العنف والقتل في مقابل صور كرتونية ليس مقبولاً، كما أن ضرب المدنيين في عواصم العالم ليس مقبولاً لا باسم الإسلام ولا باسم أي دين. لقد نفذت العملية التي قامت بها مجموعة أعضاؤها فرنسيون من جذور جزائرية بطريقة إستعراضية الهدف منها إثارة أقصى كراهية ونزاع وغضب ممكن في اوروبا وفرنسا والعالم. وجدت نفسي وسط العاصفة بينما أقوم بزيارة علمية ومطولة لجامعة دينفر الاميركية، فبسبب العملية الدموية ضد صحيفة فرنسية عادت نفس الاسئلة حول الارهاب والمسلمين.
بمجرد حصول العملية بدأت مؤسسات عالمية وقنوات إعلامية في إتهام كل مسلم بموقفه وضميره. لكن المسلمين ليسوا مسؤولين عما وقع، تماماً كما لم يكن اليهود مسؤولين في العام ١٨٨١ عن مقتل قيصر روسيا الكسندر الثاني في عملية إرهابية شهيرة. في ذلك الزمن صور إعلام النظام للشعب الروسي أن اليهود هم من قتلوا القيصر مما أدى الى سلسلة مجازر وهجمات وتطهير ضد يهود روسيا. انتهى الأمر بهجرة ذهب ضحيتها ميلونان ونصف مليون يهودي روسي من روسيا إلى الولايات المتحدة بين الأعوام ١٨٨١ حتى ١٩١٣. إن يهود الولايات المتحدة هم أحفاد من هجّروا من روسيا بسبب التعميم والعنصرية، ومع ذلك قلما يتذكر الإعلام الاميركي أن العنصرية والتعميم والإهانة بحق فئات مستضعفة هي التي أدت الى كارثة يهود روسيا، وهو نفسه الذي أدى إلى الهولوكوست وهو نفسه الذي أدى الى مذابح ضد أقليات وشعوب بريئة عبر التاريخ.
في فرنسا نشأت الصهيونية بسبب حادثة دريفوس العنصرية ضد اليهود في أواخر القرن التاسع عشر، وهي المكان الذي طبع فيه أسوأ كتاب خيالي يحرض ضد اليهود (بروتوكولات حكماء صهيون)، ولكنها في الوقت نفسه الدولة التي ما زالت تحتضن أكبر جالية يهودية (نصف مليون) بعد الولايات المتحدة. فرنسا اليوم هي الدولة التي تزداد فيها مشكلات الهوية والتطرف بالنسبة الى الشبان المسلمين القاطنين في الأحياء الفقيرة والمعزولة.
ولا يبرز الإرهاب إلا في ظل بيئة مسدودة سبلها، وسط إنتشار وشعور بانعدام القيمة في ظل فقر وإذلال وإهمال رسمي وسكن في أحياء معزولة. ان سيرة الأخوين كواشي اللذين قاما بالعملية تؤكد إنهما ترعرعا في غيتو مغلق فقير لا يدخله البوليس الفرنسي، وتؤكد المعلومات أن أحدهما بدأ مجرماً بسيطاً وانتهى متطرفاً راديكالياً، كما انه سجن ٣ سنوات في سجن فرنسي بسبب منعه من الذهاب للقتال في العراق، بل تحول راديكالياً عام ٢٠٠٤ بسبب تعذيب المساجين في العراق في سجن ابو غريب. لقد نشأ الأخوان في بيئة متخمة بالعنصرية والتفرقة في العمل والتعليم والحياة مما خلق لديهم كراهية للمجتمع الفرنسي الذي قلما تعرفا عليه. ان تنشأ في بلد ولا تحتك او تتعرف لا في المدرسة ولا في الحياة بالمجتمع الذي يحيط بك يثير اسئلة. الكراهية بدأت في الغيتو بين أبناء وأحفاد المهاجرين الذين جاؤوا من الجزائر. فقصة الأخوين تفرض على الفرنسيين التساؤل عن العلاقة مع المهاجرين الذين وصلوا بالأساس الى فرنسا بسبب قيامها باستعمار شمال أفريقيا والجزائر لعقود طويلة.
وبينما يدين كل صاحب ضمير العملية الارهابية، إلا أن حرية التعبير من جهة أخرى يجب أن تترافق مع مسؤولية سياسية وإنسانية خاصة تجاه الجماعات المهمّشة والمستضعفة. مثلاً لو قام أحد بالتشكيك بالهولوكوست في أوروبا وفي فرنسا والمانيا سينتهي في السجن، وفي ألمانيا قد تصل العقوبة لغاية خمسة سنوات. والسبب في ذلك أن ملايين الناس قتلوا في الهولوكوست، فالموضوع شديد الحساسية لليهود كما للمسيحيين. ولو قامت صحيفة «شارلي ابدو» بإطلاق السخرية على ضحايا ١١ أيلول (سبتمبر) وهم يسقطون من الأبنية ماذا سيحصل؟ ولو قام أحدهم بالهجوم اللفظي والعنصري على الملونين الأميركيين اثناء محاكمة الشرطة للمتهم بحادثة قتل الشاب الملوّن منذ شهور لانفجر الشارع الملوّن في كل الولايات المتحدة. هذا يؤكد أن حرية التعبير، بغض النظر عن القانون، يجب أن تترافق مع درجة من درجات المسؤولية. فصحيفة «شارلي إيبدو» لم تضع رسوماً تصور الهولوكوست وكأنه لم يقع، أما المسلمون فهم في قاع النظام العالمي وبالإمكان الإستهزاء بهم. والمعروف إن «شارلي إيبدو» فصلت رساماً فرنسياً (موريس سينيت Senet) لأنه تلفظ بلفظ معادٍ للسامية، كما أن الجريدة الدانماركية التي طبعت كاريكاتوراً مسيئاً للرسول محمد عام ٢٠٠٥ رفضت نشر كاريكاتور يسخر من المسيح خوفاً من ردود الفعل.
وبينما يجب أن نقدس حرية التعبير، إلا أن حرية التعبير يجب أن تجد لها لغة أكثر رقياً وأسلوباً جوهره الاحترام في التعامل مع الفئات المهمّشة والضعيفة والتي تعاني من العنصرية والتمييز والخوف والحروب، وهذا يشمل الفئات الفقيرة والمستثناة في المجتمع الفرنسي والعالم. حرية التعبير في التجربة الغربية عنت دائماً أنك تقول ما تريد في مواجهة رئيس ورئيس وزراء ودوائر النفوذ والسلطة والقوة، وأنك تستطيع أن تقول الحقيقة مهما كانت قاسية أمام الدولة، وقد عنت حرية التعبير في الوقت نفسه وجود ضمانات قضائية وحقوقية تحد من قدرة النظام السياسي والأقوياء على تدمير حريتك. حرية التعبير منذ عصر التنوير ساعدت الضعفاء المهمشين والمثقفين ممن لا يملكون سلاحاً وأجهزة أمنية وجيوشاً على مواجهة النفوذ عبر الكلمة. لكن حرية التعبير غير المسؤولة والتي تمعن في توجيه إهانات عنصرية لفئات مهمشة مستثناة وضعيفة ستثير ردود فعل خاصة أن المهمش يشعر انه لا يملك ما يخسره.
المسلمون والعرب في هذا العالم هم من أكثر الفئات تهميشاً. إنهم المعذبون في الارض، فحالهم من اليمن الى فلسطين ومن مصر إلى ليبيا وسورية والعراق بل ولبنان وغيره، بل حالهم مع الشتاء القارس والحروب المفتوحة يؤكد هذه الحقيقة. العرب في قاع الكوكب والمسلمون معهم في هذا القاع، لهذا سترتفع حتماً الحساسية تجاه صور كرتونية وتعبيرات عنصرية مصدرها الغرب الإستعماري الذي يتدخل عسكرياً ويمارس العنف ضد عرب ومسلمين بوسائل مختلفة.
ردود الفعل في العالم الغربي بسبب عملية «شارلي إيبدو» في باريس كانت ستختلف لو قام بها متطرف فرنسي أو متطرف أوروبي كما حصل في السنوات العشر الاخيرة عندما قام متطرفون أوروبيون او أميركيون بأعمال إرهابية أدت الى قتل الابرياء. بعض هذه الاعمال وقع في اوروبا وبعضها حتى في دينفر الاميركية وفي دور للسينما ومدارس. إن لسان حال العالم يختلف عندما يتعلق الامر بالمسلمين مما يعكس ما تختزنه القوى العالمية المهيمنة على الحضارة الغربية والأجندة الإسرائيلية تجاه العالم الإسلامي وقضاياه، وهذا ما يجب ان نلحظه ونعيه في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ المسلمين والعرب تحديداً.
وعلى رغم انقضاء ١٤ عاماً على احداث 11 أيلول فإن محاربة الإرهاب قد تعني مواجهة «داعش» و «القاعدة»، لكنها ستعني في الوقت نفسه بناء تحالف يجعل الشعوب العربية مقيدة في قدرتها على المقاومة الوطنية كما هو حال الفلسطينيين في الاراضي المحتلة وفي غزة. الحرب على الإرهاب في جانب منها تسليم بأن من يحارب الارهاب حليف للغرب بغض النظر عن سجله في حقوق الانسان. فعلاً كان ينقص تظاهرة الاحد الماضي في باريس بعض الرؤساء ممن انتهكوا حقوق الانسان من الباب الواسع. تكفي مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو في تلك التظاهرة وهو المسؤول عن جزء كبير من الإرهاب في منطقتنا.
إن الشكل الذي تسوق به الحرب على الإرهاب سيصيب الأبرياء مما سيرفع من منسوب الإرهاب، وسيدفع بالشرق الى مزيد من الفوضى وسيدخل الإرهاب في مرحلة أشد فتكاً. الإرهاب ليس نتاج تراخٍ في السياسات الأمنية والتنسيق بين وزراء الداخلية العرب والاوروبيين والأميركيين وغيرهم، بل هو نتاج مشوه للعنصرية تجاه العرب والمسلمين في ظل تردي العلاقات الإنسانية وإنتشار الظلم وسوء التعليم والفقر والإهانة وانتهاك الحقوق والتدخل الخارجي العسكري والسياسي.
Well said