تناولنا العشاء قبل أيام في مطعم يطل على ضفاف نهر الدانوب في بودابست عاصمة هنغاريا والتي تكوّن مسماها من اتحاد مدينتين هما: مدينة «بودا» وتعني «ينبوع الماء» ومدينة «بست» وتعني «فرن النار»، وقد لاحظنا أن شابين يافعين أخذا يعزفان الموسيقى أمام المطعم وهما يتمايلان طربا، وأن كثيرا من المارة يسعدون بعزفهما فيقومون بالرقص ثم يلقون بالنقود في القبعة التي رسم عليها الشابان وجها ضاحكا.
***
وأعلم أن الشابين وكثيرا من المارة هم ضمن الحالة الاقتصادية السيئة التي تجتاح أوروبا وأميركا والعالم، وقد عجبت من سعادتهم رغم القليل وتعاستنا ككويتيين رغم الكثير، وهو أمر قد نندم عليه لاحقا حين تنخفض أسعار النفط ويتعاظم عجز الميزانية الى حد سيمس مستوى معيشة أغلب الكويتيين وحينها سنندم حين لا ينفع الندم على أننا ضيعنا على أنفسنا فرصة السعادة الحقيقية ابان رغد العيش كوننا تفرغنا وبذكاء بالغ لخلق المشاكل من عدم في مجتمعنا.
***
وإذا كانت الدول المتقدمة قد تفوقت على بلداننا العربية والاسلامية في قضايا العلم والصناعة والزراعة والتكنولوجيا والديموقراطية والحرية وحقوق الانسان، فإنهم تفوقوا علينا كذلك حتى في قضايا «الشحاذة» حيث يعمد شحاذوهم لنشر السعادة بين الجموع عبر اتقان عزف الموسيقى أو الرقص أو الألعاب البهلوانية كوسيلة للحصول على المال، بينما تعمد شعوبنا لفقء الأعين وقطع الايدي وإخراج العجزة وأصحاب العاهات من المنازل لنشر التعاسة وحصد العطف للوصول إلى نفس النتيجة.
ومما رأيناه أيضا في تجوالنا في بودابست والضواحي المحيطة، هناك فندق ومقهى نيويورك الذي أنشئ عام 1894 ويعتبر أجمل مقهى في العالم، وفي شانزليزيه بودابست الذي يضم أرقى المحلات يقع «متحف الرعب» الذي كان مقرا للغستابو النازي حتى عام 45 ثم أصبح مقرا للقيادة السوفييتية والهنغارية، حيث يمارس القتل والتعذيب بأشد صورة واحترت بعد زيارة مطولة لذلك المتحف، أيهما أكثر قمعا وظلما وقتلا في تاريخنا الحديث نظاما هتلر وستالين أم نظاما حزب البعث في بغداد ودمشق؟!
***
آخر محطة: (1) من مآسي تاريخنا العربي الحديث وكثرة التزييف فيه ما حدث عام 1956 عندما حاول العالم الحر ممثلا ببريطانيا وفرنسا بطريقة ملتوية الاستفادة من الحرب التي قامت بين مصر وإسرائيل للتدخل وإسقاط الحكم العسكري القمعي القائم في مصر لصالح قيام نظام ديموقراطي في بلاد النيل، إلا أن العرب سموا تلك العملية (29 أكتوبر – 7 نوفمبر 56) بالعدوان الثلاثي ولهجوا بشكر نصير الشعوب وعدو الاستعمار الاتحاد السوفييتي لموقفه من تلك الحرب.
(2) ما لم يقله مضللو العقول ومزيفو الحقائق وعلى رأسهم الاستاذ هيكل وكتبه عن حرب السويس أن الشعب الهنغاري ثار في ذلك العام على الحكم الشيوعي القمعي الذي أباد وهجر مئات الآلاف، الا ان الجيش الروسي دخل هنغاريا بدباباته ورجال مخابراته (23 أكتوبر – 11 نوفمبر 56) وقمع الشعب ودخل بودابست وأعدم رئيس الوزراء الذي لجأ للسفارة اليوغوسلافية آنذاك، ومع ذلك ينتقد من لم تدم حربه إلا 7 أيام وكان يهدف لنشر الحرية والديموقراطية ولم يدخل العاصمة المصرية أو يعدم الرئيس عبدالناصر ويمدح في المقابل كل من قام بتلك الجرائم.. في الوقت ذاته.. وعجبي!