في صيف 1952 قامت في مصر حركة الجيش المباركة التي تحولت الى ثورة أخرجت الملايين الى الشوارع لدعمها وكان عدد سكان البهية مصر آنذاك 20 مليونا على مساحة 3.5 ملايين كم (مساحة مملكة مصر والسودان) وكان سعر الجنيه حتى الأربعينيات يبلغ 5 دولارات (يقارب ضعف سعر الدينار الكويتي وسنرجع في مقال لاحق لتلك القضية)، وفي خطاب عبدالناصر عام 1956 الذي أعلن فيه «أكذوبة» تأميم القناة التي لم تؤمم، بل تم فقط الاستيلاء على مبانيها وبقيت ملكية اسهمها بيد المستثمرين من انجليز وفرنسيين حتى قام نظام عبدالناصر بشراء تلك الأسهم سرا عام 1958 بأسعار مضاعفة حاله حال فتح مضائق تيران سرا للسفن الإسرائيلية، وقد كان بإمكانه ان يشتري تلك الأسهم المعروضة بالسوق دون حرب أو ضرب أو ادعاء تأميم. وهل ترضى مصر قيام رئيس الوزراء الانجليزي بتأميم متاجر هارودز ذات الملكية المصرية بحجة انها بنيت بأيد انجليزية على أرض انجليزية؟
***
في خطاب أكذوبة التأميم يعلن الثوري المدغدغ عبدالناصر حقيقة صادقة وهي ان صندوق النقد الدولي الذي اختلق المعارك معه كما اختلق المعارك مع حلف بغداد بنصائح مسمومة من مستشاره هيكل ومن يقف خلف هيكل قد رفض اعطاءهم 100 مليون دولار تعادل كما أتى في الخطاب 36 مليون جنيه مصري مما يعني ان الجنيه آنذاك كان يعادل 3.3 دولارات أميركية، تلا تلك الأوضاع المتأزمة وتكرر خروج الملايين الى الشوارع والميادين لتأييدها ودعمها خسارة السودان وسيناء وغزة وسورية وبدء القمع واختلاف الحلفاء والشركاء على كعكة الحكم التي تمسك بها ناصر حتى موته وتدهور سعر العملة المصرية وقد عاد الشعب يترحم فيما بعد على من تم تشويه سمعته آنذاك كالملك فاروق حتى فاقت مبيعات الكتب التي تتحدث عن حقبة حكمه السعيدة المزدانة بالديموقراطية والحريات الإعلامية أضعاف مبيعات كتب عبدالناصر والسادات مجتمعين.
***
هذه الأيام ترجع مصر بعد نصف قرن الى نفس الأفعال الثورية المدغدغة والمدمرة، فيتم بالهوجة وفي سبيل البحث عن نصر جماهيري إلغاء عقد الغاز مع إسرائيل من طرف واحد (باق عليه 13 عاما كما كان الباقي على عقد القناة 12 عاما) وينص العقد على ان المحاكم الدولية هي مرجع التقاضي ولا شك ان ارتفاع اسعار الطاقة جعل العقد مضرا بمصر الا ان هذا الضرر لا يبرر إلغاء العقد من وجهة نظر كثير من القانونيين ـ لا الساسة المخادعين ـ فلو ان اسعار الطاقة قد انخفضت في السنوات اللاحقة لتضررت اسرائيل منه دون ان يكون لها حق إلغائه، هذه الأيام لجأت إسرائيل للمحاكم الدولية مطالبة بتعويض قدره 8 مليارات دولار، ولو حصلت على حكم لأُفرغت الخزانة المصرية مما تبقى من عملتها الصعبة ويتم ذلك الإلغاء ومصر تتفاوض مع صندوق النقد الدولي وغيره من منظمات عالمية للحصول على قروض ومعونات لدعم الخزانة العامة للدولة.
***
وبينما يلقي رئيس الوزراء د.كمال الجنزوري كلمة مؤثرة يتحدث فيها عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة وطلبه من السعودية ايداع 3 مليارات دولار في البنوك المصرية تتفجر في الإعلام المصري حملة كاذبة وظالمة على السعودية على معطى القبض على مهرب حبوب مخدرة يدعى أحمد الجيزاوي، ويُدّعى انه محبوس لأسباب سياسية لطعنه في الذات الملكية (لا يوجد في السعودية مثل تلك التهمة) ثم يكتشف بعد «خراب بصرة» ان الشاب قد اعترف امام السفير والقنصل المصري في السعودية بحيازته لتلك المخدرات ويصادف ان تنشر الصحف المصرية في 24/4 خبر قبض الكمين الأمني الذي يسبق عبور جسر السلام لسيناء على شاب يعيش في العريش بتهمة تهريب 114 حبة فياغرا مستوردة (وليست حبوبا مخدرة) بعثتها معه احدى الشركات إلى إحدى صيدليات العريش، ومصادرة سيارته وإحالته للمحاكم المختصة أي حلال هنا حرام هناك.
***
آخر محطة:
نخشى مما نرقب ونرى ان حكم اعدام مصر قد صدر وان تنفيذه قائم على قدم وساق بكفاءة وجدارة وان المخطط يستهدف تدميرها اقتصاديا (انظر تقريري الفايننشال تايمز والديلي تلغراف الخطيرين) ليتلوه «تفتيتها» جغرافيا كي تخسر أطرافها كما خسرت أراضيها بعد ثورة 1952 المباركة! حمى الله مصر من ساستها وإعلامييها وما يفعلونه بها فقد تكالبت الضباع عليها.