الديموقراطية في بلدنا هي ـ للأسف ـ أشبه بمشاهدة سمكة بين الأشجار حيث تشعر منذ الوهلة الأولى بأنها في غير مكانها الطبيعي، كما أن حالها يظهر عدم قدرتها على العيش والبقاء حيث إنها متجهة لا محالة للموت والفناء، إن ديموقراطيتنا حالها حال السمكة في حاجة ماسة إلى بيئة حاضنة وحانية وراعية كي تعيش وتنمو وتصبح القدوة الحسنة بين الأمم لا القدوة السيئة للشعوب كما هو الحال الآن حيث ترفع كفزاعة مخيفة ومدمرة بعد أن أصبح شعار لاعبيها.. كلنا يا عزيزي رابحون ومستفيدون والخاسر الوحيد هو.. الوطن ومستقبل شعبه!
*****
يحق لمن يريد أن يختلف مع أي وزير أو مع رئيس الوزراء بشرط ألا يفجر بالخصومة وألا يدمر الدستور واللعبة الديموقراطية في سبيل الوصول لذلك الهدف، فالدستور هو أعراف وممارسات قبل أن يكون نصوصا جامدة فما نرتضيه هذه الأيام من ممارسات كوسيلة للوصول للغاية يعني القبول باستخدام نفس الأدوات في الغد حتى لو سخر لنا يوما رئيس يجمع بين دهاء بسمارك وحكمة درزائلي وحنكة تشرشل وقدرة مهاتير وذكاء لي كوان.. أي سنبقى ضمن دائرة الأزمات الطاحنة كائنا من كان الرئيس وشخوص وزرائه.
*****
وواضح استمرار ممارسات سياسية مدمرة تقتل الديموقراطية كما يقتل الهواء السمك كاستجواب رئيس الوزراء ـ أي رئيس وزراء ـ على أعمال الوزراء الآخرين ممن سينضمون حسب هذا الفهم العقيم للنواب المعصومين ومن ثم سيفسدون كحالهم حيث إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ومن الممارسات القاتلة للعملية الديموقراطية التعسف باستخدام الأدوات الدستورية وعلى رأسها الاستجواب رغم ضوابط المحكمة الدستورية المنظمة لها (حكم عام 2006)، وإضفاء قدسية الكتب السماوية المنزلة على الدستور البشري الوضعي وتكفير من يدعو لتعديله وتطويره وعلى رأس هؤلاء بالطبع الآباء المؤسسون له ممن قاموا بكتابته ودعوا لتنقيحه بعد مرور خمس ـ لا خمسين سنة من تجربته.
*****
ومن الممارسات الخانقة للديموقراطية والمدمرة للعبة السياسية الارتضاء بحكم الأغلبية عندما تكون لصالح طرف ما ورفضها في الوقت ذاته عندما لا تكون لصالحه واللجوء عندها للفوضى والتجمهر بقصد فرض «دكتاتورية» الأقلية التي تعكس الجهل الشديد بأبسط معاني الديموقراطية، ومن الممارسات الخاطئة إعطاء النائب مرتبة من لا يحاسب قط عما يفعله عبر رفض إنشاء «لجان قيم» والعمل بمبدأ غريب مضمونه إن أخطأت الحكومة فهي مخطئة وإن أخطأ النواب بسبب غياب آلية الحساب والعقاب.. فالحكومة هي المخطئة كذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل.
*****
ومن الممارسات المدمرة استخدام أحد طرفي اللعبة السياسية ـ التي هي أقرب للعبة الرياضية ـ لكل أدواته الدستورية بل وحتى التعسف بها في الوقت الذي يرفض فيه استخدام الطرف الآخر لنفس الأدوات التي أعطاه إياها نفس الدستور، كإحالة المواضيع للجان المختصة أو للمحكمة الدستورية وآخر ما سمعناه في هذا الصدد بعض الآراء التي تتسبب في ضحك كالبكاء كالقول إن قرارات المحكمة الدستورية غير ملزمة(!) فلماذا إذن إنشاء المحكمة والصرف عليها ما دامت أحكامها غير ملزمة ولا يستمع إليها؟!
*****
آخر محطة:
1 ـ وصلنا مؤخرا كتاب قيم جدا من تأليف الزميل البرلماني عبداللطيف الراضي حول «العلاقة بين الحكومة والمجلس وفق أحكام المحكمة الدستورية» ومما جاء في ص 23 «في حال تقرير المحكمة الدستورية عدم دستورية قانون أو لائحة يعتبر كأنه لم يكن»، وص 36 «القضاء الدستوري هو حامي الدستور من تعسف السلطات المختلفة»، وقول للدكتورة المختصة عزيزة شريف «كلما ارتفع المستوى الثقافي والفكري لأعضاء البرلمان زاد تفهمهم لدور المحكمة الدستورية وكلما انخفض مالت العلاقة مع المحكمة نحو العداء السافر والتحدي الواضح» وهناك عشرات الأمثلة الأخرى.
2 ـ ضمن كتاب نظام الحكم في أميركا دعوى ماربوري ضد ماديسون عام 1803 وحكم المحكمة الدستورية العليا الذي جاء ضمنه «أي ممارسة تشريعية مناقضة للدستور لا تجوز ولا تصبح قانونا».