الجماهير الملايينية التي خرجت تطالب مبارك بالرحيل تعادل في عددها الجماهير الملايينية التي خرجت إما لتطالب عبد الناصر بالعدول عن استقالته (يونيو 1967)، او لتودعه عند رحيله (سبتمبر 1970)، الغريب ان المعادلة الصحيحة والمنطقية كانت تقتضي العكس، فقد خسر ناصر السودان وبعدها سورية وسيناء وغزة مرتين، وأدخل مصر في سلسلة حروب وهزائم عسكرية وقمع وزوار فجر، وكان مستوى العيش لـ 20 مليون مصري يقل كثيرا عن مستوى عيش 84 مليون مصري إبان حكم مبارك الذي حرر الأرض وأوقف الحروب وأدار عجلة التنمية والاستثمار بأقصى سرعتها وزاد عدد السائحين من عشرات الألوف إبان عهد ناصر الى عشرات الملايين في عهده.فما سبب نجاح الأول وفشل الثاني؟! (واضح ان الانجاز ومنح الحريات لا يكسب بذاته قلوب شعوبنا التي تحركها العاطفة لا العقل).
أول أسباب ما حدث مؤخرا هو «متوازية الفساد وحرية الإعلام» ففي عهد عبدالناصر كان فساد المشير عامر وصلاح نصر وزمرة ضباطه أكثر استشراء واتساعا دون مردود على الدولة، الا ان الشعب لم يغضب او يثر، كونه لا يعلم عنه شيئا لسيطرة النظام على الإعلام، بينما سمح عهد مبارك بالحريات الإعلامية من صحف وفضائيات التي تابعت كشف ـ بحق او باطل ـ قضايا الفساد دون رد من النظام بتصحيح المسار او بتفنيد الادعاءات، حتى تكونت صورة شديدة القتامة والسواد عن العهد، اختفت داخلها انجازاته ولم يسمع احد صوت وزير الإعلام أنس الفقي قط حتى سقوط النظام إلا عندما اتصل بالأمس ليرد على د.مصطفى الفقي.
(تجارب الشاه وبن علي ومبارك تدل على ان دعاوى الفساد هي الأكثر اثارة لمشاعر وغضب العامة حتى مع وفرة الانجاز حيث يصدق الناس أحيانا ما يسمعون ويكذبون ما يرون).
سبب آخر هو عدم استخدام العقلاء والحكماء والأذكياء للقراءة الصحيحة للأحداث وخلق ما هو أشبه برادارات الانذار المبكر، مما نتج عنه قراءات خاطئة تماما لأحداث تونس التي لو بدأ الاصلاح مبكرا ومتوازيا معها لتغيرت الأوضاع بشكل جذري، ومثل تلك القراءات الخاطئة لتداعيات تزوير نتائج الانتخابات الأخيرة والحصول على 100% من الكراسي النيابية مما أثار ضيق وغضب الشارع وقواه السياسية، وفي مرحلة لاحقة خطأ ارسال البلطجية والخيول والجمال الى ساحة التحرير، وسحب رجال الأمن من الشوارع، وخطب الرئيس الخاطئة في المضمون والتوقيت وأفضل منها لو انه تنحى ـ كما كتبنا في مقال سابق ـ في وقت مبكر وخرج محافظا على سمعته وكرامته وانجازاته.
ومن الأمثلة الصارخة على نجاح عمليات تسويد الصورة بشكل غير معقول، تصديق الشعب المصري لاكذوبة جريدة «الغارديان» الغوبلزية التي يقصد منها زيادة النار اشتعالا بأن الرئيس مبارك اختلس 70 مليار دولار (420 مليار جنيه مصري) علما بأن الميزانية المصرية تدقق من قبل 6 جهات رقابية يرأسها الشريف جودت الملط، بينما لم تثر للمعلومة الشعوب على حكومات «ثورية» في المنطقة يستولي بعضها على دخل النفط بأكمله وبعضها الآخر على ميزانية الدولة بأكملها، كما ان مشاريع الوزراء أحمد المغربي وزهير جرانة هي في الأعم اقامة مدن اسكانية خاسرة في الأغلب فكيف لهم ان يكوّنوا المليارات المدعاة؟ (ان الأنظمة لا تنهار فجأة بل تتآكل تدريجيا مع كل دعوى فساد او اخفاق لا تحارب او ترد او تصحح).
وقد استطاع عبدالناصر بالأمس وإيران اليوم تعويض اخفاقات الداخل بنجاحات السياسة الخارجية، لذا كان ناصر والثورة الايرانية مؤثرين بشكل مباشر في أوضاع العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن وباقي دول المنطقة، في وقت اختفى فيه دور مصر الخارجي في أفريقيا والمنطقة العربية في السنوات الأخيرة حتى أصبح لا يزيد عن دور دول عربية صغيرة كجيبوتي وغيرها (الشعوب لا تمانع أحيانا ان تبيت جائعة لو وعدتها الأنظمة بالكرامة والأحلام الوردية المستقبلية).
آخر محطة
(1): أظهر مؤشر عدم الاستقرار لدول المنطقة في عدد مجلة الايكونومست الانجليزية الرصينة ان اليمن (88%) وليبيا (72%) يأتيان في مقدمة البلدان المرشحة لعدم الاستقرار القادم وقطر والكويت في آخرها بنسب تقارب (20%) (طبق الأصل).
(2) مع سقوط دولة الوزير حبيب العادلي نرجو ان يماط اللثام عن مصير زميلنا في «الأنباء» والأهرام الصحافي الميت الحي رضا هلال فلم يعد هناك سر في مصر.
(3) صدر عن الاخوان المسلمين بيان رائع أكدوا فيه دعوتهم للدولة المدنية وان الدولة الدينية ضد الإسلام فكيف يقفون معها؟ أفلحوا ان صدقوا.
(4) من الدروس المستفادة حاجة الدول المنجزة المستقرة الى عمل اعلامي مدروس ومنظم لتحسين الصورة، فالانجاز وحده لا يكفي.. والحديث ذو شجون!