لنفسح المجال للخيال، ولنتخيل، أنه بعد نحو 1500 سنة قادمة، ولنقل أننا في العام 3017، نعيش صراعاً مريراً مدمراً في المجتمع الإسلامي بسبب بضع كتب كتبها في العام (2017) مجموعة ممن يسمون أنفسهم اليوم «علماء ومشايخ وطلبة علوم دينية من الطائفتين»، ممن ليسوا من الفضلاء ولا أهل العلم ولا يحزنون!
ولنتخيل أننا شهود على صراع دموي بين المسلمين بسبب تلك الكتب الغابرة وما فيها من مثالب ومآسي ومصائب في ذلك الزمان، وتحدثنا مع الناس وأخبرناهم بأن المعمم «الفلاني بعمامته السوداء أو البيضاء ممن تقرؤون كتبه لا علاقة له بالفقه ولا بعلم العبادات ولا المعاملات ولا التاريخ… نعرفه جيدًا فقد عاصرناه وهو ليس من العمائم البيضاء والسوداء ممن عُرف عنهم الصلاح والعلم والتقوى والفضيلة»، وذلك صاحب البشت واللحية الطويلة والثوب القصيرة أو العمامة الأزهرية «لم يكن في زماننا إلا متاجراً بالدين وصاحب أكاذيب في الفضائيات ووسائل الإعلام وعلى منابر الفتنة»… هل سيصدقنا الناس حينها؟
سنقف بين أمرين، فلا شك أننا لا نعلم الغيب، ولا ندري كيف ستكون عليه أحوال الأمة بعد 1500 سنة قادمة، ولكن بإمكاننا أن نتخيل ولو بالقدر الذي تسمح به عقولنا، أن ثورة المعلومات والتكنولوجيا ستزداد ثورة على ثورة، أكبر بملايين الأضعاف مما هي عليه اليوم، ووفقًا لهذا، ربما سيكون أهل ذلك الزمان أقدر بكثير على أن يعرفوا العالم فلان أو صحاب الفضيلة علان بضغطة زر على محرك البحث غوغل والذي لا يعلم كيف سيكون مداه آنذاك إلا الله سبحانه وتعالى.
وفي كلتا الحالتين، سواءٌ عشنا واقعنا نحن أهل هذا الزمان، أو تخيلنا ما ستؤول إليه الأمور في الزمان القادم المجهول، فإن الفارق سيكون حتماً هو قدرة الإنسان على التمييز والبحث والتدقيق والتأكد مما جمعته كتب الدين والتاريخ والجغرافيا والفنون وغيرها بعقلية بحثية متجردة من الأدلجة والتوجيه والميول الطائفية، فالمجتمع الإسلامي يعيش منذ عقود من الزمن صراعاً طائفياً شديداً بسبب كتب مضى عليها مئات السنين، فيها الكثير من الصحيح والنافع، وفيها الكثير الكثير من الضار والمثير للضغائن والصدام المذهبي، حتى أن حرب «في كتبكم» و«في كتبنا»، من شدة أوارها، جعلت فئة من الذين ارتهنوا لكتب التاريخ أن يبقوا مقيدين في تلك الكتب، بغض النظر عما فيها من غث أو سمين، لا بل يريدون ويفرضون على الآخرين أنهم مثلهم، يعيشون في كتب الفقه والتاريخ والعبادات والعقائد وكأنها مصاحف مقدسة أو مقررات لا يعيش الإنسان المسلم إلا إذا التزم بكل ما فيها… إن كان فيها من أفكار التكفير والقتل والرفض والنصب، أو إن كان فيها ما فيها من فتاوى وأحاديث مكذوبة موضوعة تفاوتت مراحل كتابتها في حينها، ووصلت إلى عصرنا وأصبحت كالأدلة والبراهين التي يحتج بها (أقطاب الطائفية والصراع المذهبي كمصادر مرجعية موثوقة)، ولربما كتب بعضها ممن هو أصلاً لا علاقة ولا عهد له بالدين والنماذج في التاريخ الإسلامي كثيرة متعددة، ولو ذكرت أمثلة منها لثارت ثائرة أصحاب «سجون الكتب القديمة»، فهم يرون أولئك (الذين مضوا)، ملائكة لا يخطؤون أبداً.
في عصرنا، جامعات ومعاهد وعلماء ومؤسسات فقهية ومراكز بحثية معتبرة، وفي عصرنا أيضاً دعاة ومشايخ من السنة والشيعة والإباضية والعلوية والزيدية والسلفية والمتصوفة والأشاعرة والأثرية وقائمة طويلة من بين نيف وسبعين فرقة، لا يدعون أنهم الفرقة الناجية، بل يحملون مسئولية صلاح وفلاح واستقرار الأمة بكل أمانة لخدمة الدين… فيما تصر موجة التدمير أن يعيش المجتمع الإسلامي رغماً عنه، بين قضبان هذا الكتاب أو ذاك… ربما كتبه ذات يوم، واحد «خريش» زج نفسه في الدين زجاً فأولد لنا جماعات من الظلاميين الذين لا يعيشون إلا على الصورة الدموية في المجتمع الإسلامي، ويشهرون السيوف في وجوه الباحثين الذين يحذرون الأمة من «عفن قاتل» تحتويه بعض تلك الكتب.