الكلمتان “أميركا أولاً” اللتان جاءتا في خطاب الرئيس ترامب في حفل تنصيبه في أغلب الصحف الأجنبية الكبيرة، تعني ببساطة، أولوية المصلحة الأميركية على بقية مصالح العالم، وكأن هذا أمر جديد على تاريخ السياسة الأميركية ولم يكن واقعاً بمعظم التاريخ الأميركي، وتحديداً من ظهور هذه الدولة كقوى عظمى من نهاية الحرب العالمية الأولى. “أميركا أولاً” هي سياسة العصا الغليظة عند “تي دي روزفلت”، وهي قبل ذلك “عقيدة مونرو” التي تحذر دول الاستعمار القديم “بريطانيا وفرنسا” من الاقتراب من منطقة النفوذ للولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية، ثم حدث وتدخلت الولايات المتحدة، وقلبت أنظمة عدد من دوله حين أرادت الأخيرة الخروج عن طوعها.
أميركا أولاً، هي أيضاً عقيدة أيزنهاور للشرق الأوسط، كامتداد لحقبة ترومان، هي الانقلاب على مصدق في إيران، والتآمر ضد عبدالناصر، وهي حلف السنتو، وهي دعم الدولة الإسرائيلية بلا حدود، وهي تأديب ليبيا أيام ريغن، ثم التدخل في العراق، وهي الدعم غير المباشر للأنظمة الأوتوقراطية العربية ضد احتمالات تمدد الربيع العربي لها، ولن يتسع المكان لتحديد معنى أميركا أولاً في تحديد تخوم تدخلات الهيمنة الأميركية.
ما يخيف دول أوروبا والصين في مبدأ “أميركا أولاً” هو عودة أميركا لعزلتها التاريخية قبل الحرب الكونية الثانية، وما يعني ذلك للاقتصاد العالمي والعولمة والتجارة الدولية وعودة حروب الحمايات الاقتصادية بفرض الضرائب والرسوم على الواردات للولايات المتحدة، بغرض دعم الصناعة الأميركية والعمالة الأميركية.
أيضاً، أميركا أولاً، تعني بث روح “النوستولجيا”، أي الحنين للماضي، عند أسر الطبقة الوسطى البيضاء في أميركا، والتي كانت القوة الدافعة لفوز ترامب، وهي الرغبة لعودة الساعة للوراء لأيام الأربعينيات والخمسينيات، كما ذكرت الكاتبة “انا بلوم” في “واشنطن بوست”، فهي صور من الماضي الرومانسي، كما نشاهده بالأفلام القديمة رغم عدم واقعيتها وعدم مناسبتها لهذا الزمن.
شعار أميركا أولاً، بوعد الرئيس ترامب بالقضاء على التطرف الإسلامي تماماً، والذي احتفت بخبره بعض صحفنا، يتغافل عن حقيقة المسؤول الكبير عن خلق هذا التطرف الإسلامي، وكأن هذا التطرف صناعة عربية إسلامية مئة في المئة، ولم تكن إدارة كارتر ثم ريغن داعمة للنضال الجهادي في أفغانستان (مقاتلو الحرية كما أسماهم ريغن ذلك الوقت). الآن، سيشدد ترامب من الحملة العسكرية ضد “التطرف الإسلامي”، ولكنه سيطالب دول الخليج بدفع فواتير الحرب، أياً كانت ظروفها الاقتصادية وما قد تصل إليه حال دولها بعد سقوط أسعار النفط، ولا شيء في وعد هذه الحرب القادمة ضد التطرف عن البيئة والسياسات التي احتضنت وشجعت هذا التطرف، وكرست غرق الدول العربية تماماً في مستنقع الحروب الطائفية الدينية.
يبدو شرقنا الأوسط في مضمون كلمتي أميركا أولاً، يعني بالإضافة إلى الرفض الضمني لاتفاقية إيران مع إدارة أوباما والبحث عن أسباب لعودة العقوبات على الأخيرة، إسرائيل أولاً، أي تكريس الاستيطان ومصادرة الأراضي العربية، ونقل السفارة الأميركية للقدس ولا شيء آخر غير طمس حلم الدولتين بفلسطين، وطي صفحة معارضة الولايات المتحدة الشكلية لسياسة مصادرة الأراضي الفلسطينية.
لا شيء يبعث للفرح والتفاؤل في حقبة ترامب، غير أن الأمور ستكون واضحة، على الأقل، في قراءة السياسة الأميركية بالمنطقة إن كان هناك من يعرف القراءة وفك الخط في أنظمتنا.