منذ عدة شهور شاركت في مؤتمر تربوي بتونس، وهو ذات المؤتمر الذي جرت فيه حكاية “السيسي والسبسي” الشهيرة، ولفت انتباهي، في أروقة الفندق، شباب وكأنهم جرحى خرجوا من معركة. وعندما تبادلنا الحديث اتضح أنهم ليبيون جاءوا لتونس لتلقي العلاج، بعد معارك ضد “داعش” بمدينة سرت. شرحوا تفاصيل كثيرة عن مجريات القتال، بمعنويات عالية، مؤكدين عودتهم للقتال، وأن القضاء على من تبقى من “داعش” بات وشيكاً، وهكذا كان. خسر “داعش” سرت، وخسر تمدده شمالاً، وانكمشت إحدى أمنياته الاستراتيجية.
أما في سورية والعراق، التي توصف بـ”دولة الخلافة”، فحسب المعلن أن “داعش” خسر منها ما يزيد على ٦٠ في المئة منذ ديسمبر ٢٠١٦. وبدورها أعلنت “أعماق”، وهي وكالة أنباء التنظيم، أنها شنت ١٠٢٤ هجوماً انتحارياً للتأكيد على استراتيجيتها البديلة، والتي أشرنا لها في مقال سابق بشيء من التفصيل، والقائمة على تكثيف العمليات الانتحارية في مناطق عديدة، كأوروبا، والخليج، والمرشح أن تكون الكويت الخاصرة الرخوة في هذه الاستراتيجية.
في الميدان، تحتدم المعركة في الموصل الحدباء، ويفصل نهر دجلة الموصل إلى جزأين شرقي وغربي، ويربط القسمين خمسة جسور أساسية، دمرها “داعش” قبل ٣ أيام بعد سيطرة القوات المناوئة له على القسم الشرقي، لإعاقة تقدمهم، ما يدل على صعوبة المعركة، واحتمالات سقوط الموصل قريباً. كنتيجة لتلك الخسائر سيبدأ التنظيم انسحابات منظمة، وإعادة التجميع، في مناطق أخرى كديالى وغيرها، ومن ثم التحول إلى حرب عصابات، واستهداف أهداف سهلة مدنية ذات بعد طائفي، لإشعال المنطقة طائفياً أكثر مما هي مشتعلة. كما ستبدأ مجاميع تنظيم الدولة إعادة تجميع شاملة في محيط “دير الزور” بسورية، التي يسيطر التنظيم على جزء أساسي منها، وبالذات عندما تسقط الرقة، عاصمة الخلافة الافتراضية. بالطبع لا يبدو أن لداعش خيارات كثيرة، إلا الخيار الأكثر دموية، ويبدو أنه سيكون مختلفاً هذه المرة.
كلما زاد الضغط العسكري على “داعش” في المنطقة، وهو واقع الحال، زاد حجم ودموية العمليات الانتحارية الإرهابية في الخارج، والمقصود بالخارج هنا هو خارج محيط التنظيم الجغرافي، قريباً كان أم بعيداً، خليجياً كان أم أوروبياً.
من المؤكد أنه سيتم القضاء على داعش عسكرياً، عاجلاً أم آجلاً، لكن ألوان وأشكال “داعش” متعددة، مغروسة بيننا، وما لم تتم معالجة تلك المنظومة، فالصورة قاتمة. فالكثيرون ممن يعلنون رفضهم للفكر المتطرف، يتبنون ذات المنظومة المتشددة الرافضة للآخر، الداعمة للإرهاب، المؤيدة لخطاب الكراهية. ستنتهي داعش عسكرياً، فالمسألة لا علاقة لها بعقيدتهم، ولكن بموازين القوى، وهي حالياً ليست لمصلحة “داعش”. إن لم نبدأ بالتعامل بجدية أكبر وأكثر عمقاً، في إعلاء قيم كرامة الإنسان، وتعزيز مفاهيم السلام بدلاً من ثقافة الحرب، ونشر ثقافة التسامح بدلاً من خطاب الكراهية، فستذهب “داعش” لتأتي أخرى ربما بلون آخر، وربما أشد قسوة.