تأثراً بالمحيط غير المسلم، ولا المؤمن، في غالبه، الذي وجدت نفسي فيه قبل أكثر من نصف قرن، في المصرف الذي عملت فيه، بين أكثر من 100 موظف من خلفيات وأعراق وجنسيات وديانات متعددة، فقد اعتدت دائما الاحتفال بعيد رأس السنة، إلى أن جاء من يلفت نظرنا والملايين غيرنا، من خلال المنابر التي يسيطرون عليها، الى أن الاحتفال بهذه المناسبة يعتبر شركا!
ولكن لو سألنا هؤلاء عن تواريخ ميلادهم، واليوم الذي يقبضون فيه رواتبهم الشهرية، وتواريخ وترتيبات سفرهم، ومواعيدهم الطبية، وسنوات تخرجهم الدراسية، وأعمار ابنائهم، وصلاحيات جوازات سفرهم وإجازات قيادة المركبة، وغير ذلك الكثير، لما وجدوا سبيلا للإجابة عنها بغير ذكر التاريخ الميلادي، وهم بذلك يعيشون في حالة واضحة من التناقض بين التفكير والممارسة.
إن المسلمين ليسوا بأفضل الخلق، ولا حكوماتهم أفضل من حكومات عشرات دول العالم الأخرى، بمليارات البشر، الذي ارتضوا طوعا التخلي عن تقاويمهم، القمرية غالبا، واتباع التقويم الجريوري، أو الميلادي، الأكثر دقة، لتنظيم حياتهم العملية والشخصية والسياسية والتاريخية والتجارية. فاليابانيون والصينيون والهندوس مثلا ليسوا اقل منا اعتزازا بتاريخهم وعاداتهم ومناسباتهم الدينية، ومع هذا وضعوا كل ذلك جانبا، واتبعوا التقويم العالمي الوحيد، الذي يجمع سكان الكرة الأرضية، وحدنا، أو بعض منا قبعوا في قريتهم المتخلفة، وتلحفوا بعباءاتهم، وأشاحوا بوجههم عن العالم، رافضين اللحاق به، أو اعتبار رأس السنة عيداً جديراً بالاحتفال به، مع بقية دول العالم، وهذا مثال غريب آخر على مدى إصرارنا على أن «الصح لدينا والخطأ حوالينا».
كنت وغيري، قبل عشرين أو ثلاثين سنة، نتلقى، بمناسبة حلول رأس السنة، مئات بطاقات التهنئة. وكانت غالبيتها تحمل رسوماً مبتكرة وجميلة، ولكنها اختفت تدريجيا مع تقدم وسائل التهنئة من خلال الهواتف النقالة الذكية، الأكثر سرعة ورخصا واتقانا، من تلك البطاقات. وما لاحظته هذا العام أن عدد رسائل الواتساب التي تلقيتها للتهنئة بحلول السنة الجديدة فاق بكثير ما كان يصلني في السنوات الماضية، وربما يعود سبب ذلك الى انتشار استخدام الهواتف المحمولة الذكية، وإلى الشعور بأننا نود أن نصبح جزءا من هذا العالم، وليس رقما هامشيا فيه، ولكنها زادت حتما من منطلق ازدياد الإيمان بأهمية هذا اليوم في حياتنا، إضافة، طبعا، الى التحول الإيجابي الذي طرأ مؤخرا في موقف السعودية الإعلان عن البدء باستخدام التاريخ الميلادي رسمياً في معاملات الدولة، ودفع رواتب ملايين الموظفين والعسكريين، على أساس 365 يوماً، وليس على أساس 354 يوماً، وهذا حقق وفورات مالية ضخمة على الدولة. ولو كانت غير السعودية هي التي فعلت ذلك لتعالى الصراخ عليها، ولكن المتخلفين سكتوا!