لا شك أن التعليم لم يعد رخيصا في عالم اليوم، وأن تكلفة الخوض في المراحل التعليمية المختلفة بالنسبة للأسر، خصوصا في تلك النظم التي تعتمد على التعليم الخاص، تعد مسألة مكلفة للغاية. في مقابل هذا القيد فإن سوق العمل في عالم اليوم لم يعد ذلك السوق الذي يقبل أي خريج “أتحدث عن أسواق العمل التنافسية وليس أسواق العمل الاستيعابية المصممة أساسا لاستيعاب فوائض الخريجين من الطلبة بغض النظر عن خلفيتهم أو درجة استعدادهم” وهي قيود تزيد الطلب على التعليم ذي النوعية المرتفعة المكلفة ماديا في الأساس، بمعنى أن أسواق العمل اليوم أصبحت تفرض على الخريج أن يكون ذا حد أدنى من الإعداد كي يتعامل بسهولة مع متطلبات الوظائف في سوق العمل التنافسي.
هل معنى ذلك أن فرص التعلم والإعداد الجيد أصبحت قاصرة على الأغنياء؟ المنطق يقول نعم، ولعل بإلقاء نظرة سريعة على المصاريف الدراسية السنوية للجامعات، خصوصا المتميزة منها، توضح ذلك. وعلى ما يبدو أننا نعيش في عالم الفرص المتاحة فيه للتعلم قاصرة على الأغنياء، أما الفقراء فلا مكان لهم ولا فرصة يمكن أن تتاح لمن ليس قادرا على دفع الثمن. أو بمعنى آخر فإن ابن صاحب الياقة البيضاء سوف يظل صاحب ياقة بيضاء، وابن صاحب الياقة الزرقاء لا خيار متاح أمامه سوى حرفة يتعلمها كي يجني منها ما يكاد يسد رمقه.
لحسن الحظ أنه كلما زادت درجة تطور المجتمع أوجدت فرصا جديدة وآفاقا أوسع للتطور، ونحن اليوم نعيش في عصر المعلوماتية، التي تطورت على نحو رهيب ساعد على ذلك إدخال الحاسوب ونظم المعلومات وعالم الإنترنت، ولحسن الحظ أن المؤسسات التعليمية ذات التكاليف المرتفعة اليوم تهتم أيضا بتقنيات المعلومات المتطورة. ومن هذه التقنيات ما يسمى بالتعلم الإلكتروني e-learning، والتعلم الإلكتروني هو التعلم من خلال الوسائل الإلكترونية، وقد أصبح التعلم الإلكتروني أسهل وأوسع نطاقا مع إدخال شبكة الإنترنت.
مع تطور تكنولوجيا الإنترنت، شاعت تطبيقاته في مجال التعليم، خصوصا لأغراض التدريس، وتغيرت بالتالي طبيعة المهام الملقاة على عاتق كل من المدرس والطالب، وتحولت بالتالي عملية التعليم إلى عملية تقوم على التعلم، وبالفعل أصبحت الخدمة التعليمية أرخص في التكلفة بالنسبة لمؤسسات التعليم، وأصبح التعلم عن بعد أحد المبتكرات في مجال التعليم في عالم اليوم، وانخفضت معه تكاليف أداء العمليات التعليمية، وبالتالي بعد تصاعد المخاوف من أن تصبح العملية التعليمية خدمة خاصة للأغنياء وبدلا من تراجع أعداد الطلاب المسجلين في الجامعات، تغير الوضع وازدادت الأعداد بصورة أكبر اعتمادا على التكنولوجيا الرقمية.
اليوم يوجد التعلم الإلكتروني كأحد المكونات الأساسية في الموارد المتاحة عبر نظم معلومات الجامعات والشركات، وفي مجال الأعمال يستخدم التعلم الإلكتروني كوسيلة لتوفير مواد تدريبية أو كورسات تعليمية للعاملين في الشركات تكون متاحة بصورة مستمرة لترقية خلفيات العاملين وخبراتهم.
أما في الجامعات فالتعلم الإلكتروني هو وسيلة لتقديم مواد تعليمية بصورة تسمح للطلبة بحضور مقررات لا يتناولونها من خلال الفصول الدراسية، أو وجها لوجه مع المعلم، لأن الطالب يدرس هذه المقررات أون لاين. كل هذا يتم وفقا للجدول الدراسي الخاص بالطالب وليس المفروض عليه من الجامعة، وهو ما يعطي الطالب حرية أكبر في اختيار الوقت المناسب له للدراسة. بالطبع التعلم الإلكتروني يزيد أعداد الطلبة الذين من الممكن أن يسجلوا في المقرر، ليس هذا فقط، ولكنه أيضا يوسع المساحة الجغرافية التي يمكن للطلبة الوصول للمقررات من خلالها، بحيث لا تقبل الجامعة الطلبة المقيمين في موقع جغرافي فقط، وإنما يمتد التسجيل ليشمل كل بقعة في العالم فيها إمكانات الوصول للإنترنت، وهو بهذا الشكل يعرض آفاقا هائلة لتحسين القدرة على التعلم.
وتتكون عملية التعلم الإلكتروني من أربعة مكونات: المدرس، الطالب، المحتوى العلمي للمقرر والوسيلة التكنولوجية التي سيتم من خلالها تقديم المقرر. ولأن التعليم الإلكتروني لا يتطلب وجود كل من المدرس والطالب وجها لوجه في ذات الوقت، فإن هذه الخاصية تفتح آفاقا هائلة نحو تحسين جودة مقررات التعلم الإلكتروني. بصفة خاصة فمن الممكن أن يقوم بتقديم المادة العلمية المسجلة أفضل الخبرات المتاحة في المجال أي أشهر العلماء في التخصص، لتكون خبراته متاحة بالتالي لأي شخص في العالم يرغب في دراسة هذا المقرر، بهذا الشكل نضمن الجودة الرفيعة للمادة العلمية المقدمة من خلال مقررات التعلم الإلكتروني.
من المزايا الأساسية للتعلم الإلكتروني أنه من الممكن جعل عملية التعلم أكثر تفاعلية، بصفة خاصة يمكن من خلال مقرر التعلم الإلكتروني إدراج ثلاثة مستويات من التفاعل على الأقل، الأول هو تفاعل الطالب مع الطلبة الآخرين الذين يدرسون المقرر وهو ما يوفر آفاقا هائلة لتوسيع نطاق الفهم والخلفية العلمية في المقرر، والثاني هو تفاعل الطالب مع المادة العلمية ذاتها المقدمة في المقرر، والثالث وهو تفاعل الطالب مع مدرس المقرر ذاته من خلال وسائل التواصل المختلفة. بالطبع كلما زادت درجات التفاعل في المقرر اتسع نطاق الخبرة التعليمية التي سيحصل عليها الطالب من المقرر.
هذا بالطبع لا يعني أن التعلم الإلكتروني ليس من دون مشكلاته الخاصة به، بصفة أساسية فإن من سيتقدم للتعلم الإلكتروني لا بد أن يمتلك قدرة عالية على استخدام سبل الاتصال الإلكتروني، فهذه لا بد أن يتقنها الطالب كي يتمكن من تعظيم استفادته من المقررات التي ستطرح في ظل نظام التعلم الإلكتروني، وثانيا، أن المؤسسة التي ستتولى مهمة تقديم مقررات التعلم الإلكتروني لا بد أن تتأكد من استعداد الطالب للتعامل مع مثل هذه المقررات، على سبيل المثال أن يوجد بها نظام خاص بالقبول يقيم قدرة وكفاءة الطالب في التعامل مع تقنيات التواصل الإلكتروني، وقدرة الطالب على أن يتعامل مع مواد علمية تقدم له من خلال الإنترنت ومن دون مواجهة مباشرة مع مدرس المقرر. وأخيرا فإن مقررات التعلم الإلكتروني ذاتها لا بد أن يتم تصميمها بصورة تتناسب مع احتياجات الطالب ومستواه التعليمي.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟