نمط وشكل الاقتصاد هما مفتاح دراسة وفهم مظاهر ثقافة وسلوكيات وشخصية أي مجتمع. وحين نتحدث عن شخصية ومظاهر مجتمع الخليج والعالم العربي الثقافية والسلوكية كمثال فإننا نتحدث بطبيعة الحال عن نمط الاقتصاد المؤثر في كل ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لاقتصاد الإنتاج والتنافس الصناعي وسلوكيات وظواهر المجتمعات الأخرى الثقافية التي تعكس ذلك. لذا فإن أي تغير اقتصادي هو بالضرورة تغير اجتماعي وسياسي كذلك. والتغير من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الصناعي والإنتاج يعني تحولا كبيرا وجذريا في بنية الحكومة وأدائها كما في بنية المجتمع وأدائه. الاقتصاد الريعي اقتصاد منغلق يمثله أفراد منتمون لفئات اجتماعية لها خصوصيات معينة، بينما المنتج يمثله مجتمع متنوع منفتح على نفسه وعلى العالم. إذن كيف تتم معالجة هذا التحول؟ التحول لا يعالج بشكل مباشر بل يتطلب إدارة دقيقة. فهذا التحول الاجتماعي هو نتيجة طبيعية للتحول الاقتصادي والحكومي. وقد تناول الرأي العام أخيرا نقدا لاذعا لبعض أنواع الخلل المتعلق بتوظيف مسؤولين أعدادا كبيرة من عائلاتهم. وقد يكون هذا مثالا بسيطا على سيطرة عقلية الاقتصاد الريعي المنغلق النائم ودورانه في فلك القبيلة والعشيرة والفئة. هل يمكن تغيير المجتمع لغير هذا النمط وهو مجتمع يقوم على هذه التقسيمات؟ إذن هنا تكمن حيوية الإدارة.
الدولة في المجتمع الريعي هي الدولة الأبوية والمعيل ومهندس الاقتصاد. والمجتمعات تمثل دور الأبناء الذين ينتظرون من الأب الروحي إدارة كل شيء. لذا فهي مجتمعات تنزع للاتكالية وترقب أداء حكوماتها لأنها مجتمعات قاصرة. وهذا ليس خطأ المجتمعات، وبطبيعة الحال أن تصبح عالة على حكومات بيروقراطية هي بحد ذاتها متكلة على سلعها وحاجة الغير إلى هذه السلع. الاقتصاد الريعي كما مجتمعه اقتصاد ساكن غير متحرك يعتمد على حاجة الخارج ويتأثر بظروف اقتصادية آتية من ظروف خارجية تتعلق بالسلع المتوافرة في الاقتصاد الريعي التي أتت بلا مشقة إنتاج وتنافس وقيم إنتاج وعمل. وهي بذلك بعكس الاقتصاد المنتج الديناميكي متعدد الأبعاد بكل ما فيه.
لذا فكل ما يتعلق بثقافة المجتمع هو وثيق الصلة بشكل الاقتصاد، وكل ما يتعلق بشكل الاقتصاد وثقافة المجتمع يتعلق بالشكل المظهري لشكل البلد وهيكلها الحرفي وعمرانها وتشكيل شوارعها وأرصفتها الخالية من خطوط المشاة ومبانيها الرتيبة ذات الألوان الأكثر رتابة وبيوتها ومجمعاتها التجارية. كل ذلك هو العكس تماما بالنسبة للاقتصاد المنتج الحيوي الذي يوفر صيغا متنوعة وإبداعية. الاقتصاد المنتج لا ينحصر في الإنتاج بل في تبعات ذلك الإنتاج من منافسات وتأسيس للقيم الاقتصادية والاجتماعية. تبدو تلك القيم واضحة في ثقافة العمل وأخلاقيات المجتمع. ونجد ذلك في القيم الأمريكية مثلا، تلك المتعلقة بالعمل والإنتاج والصناعة ومن التشكيل الاجتماعي. على الرغم من تنوع أعراق المجتمع الأمريكي وخلفياته الاجتماعية المتعددة الإفريقية والأوروبية والعربية والآسيوية وغير ذلك. إلا أن تلك القيم تنعكس بصورة جلية في المجتمع والاقتصاد والسياسة وكل مناحي الحياة العامة.
لذا فنمط الاقتصاد يعني باختصار “التنمية” بكل ما فيها وما يتعلق بها من اجتماع وسياسة واقتصاد وهيكل عام. وهي تعتمد على انتقال مرحلي متوازن يؤسس لهذا الشكل الكبير. ثقافة العمل والمجتمع ليست أشكالا سطحية ظاهرية فحسب، بل هي أشكال ممتدة من أخلاقيات وقيم مزروعة ومن سلسلة من الترابطات وهذا ما اقتضته الضرورة. ولا يمكن أن تفرض على المجتمعات نمطا معينا دون سلسلة تغييرات مترابطة تترك أثرها في رحلة التحولات الكبرى. ولا ننسى التعليم الذي هو قطعة أساسية من ماكينة التغيير الاقتصادي والاجتماعي. ما كان صالحا في زمن ما لم يعد صالحا في زمن آخر، وما كان غير صالح لأسباب في زمن ما فهذا زمنه وفقا للمتطلبات المعاصرة والزمن المتجدد.