ماذا لو قال ديكارت بدلاً من أنا أفكر إذن أنا موجود (أكون)، وقال: أنا أقلق إذن أنا موجود، باعتبار أن القلق هو جوهر التفكير، وإذا كنا بلا تفكير فنحن لا نقلق، لكن لنتمهل فقد يكون الإنسان غير قلق ولكنه موجود حين تكون ذاته ممتلئة باليقين الديني – في الأغلب – أو كان متشبثا بفكر عقائدي يقدم له كل الأجوبة حول الوجود ونهجه بالحياة القادمة. فرانسيس اوغرومان في كتابه “القلق. التاريخ الأدبي والثقافي” يشرح القلق كما يظهر العنوان من باب الأدب والثقافة ولا يطرق القلق من زاوية علم النفس أو أدبيات كتب المساعدة الذاتية “سلف هلب”. عند الكاتب القلق هو محاولة لتأكيد نوع من السلطة نحو القادم.
القادم هو المستقبل، هو الاحتمال، هو المجهول، التفكير به يسبب القلق، والقلق بصفة عامة وليد ونتاج مجتمع الحداثة والتطور من نهاية القرن التاسع عشر، بهذا يمكن أن نعتبر القلق أيضاً نتاج الرأسمالية وسعي الإنسان للتملك الاستحواذي، وهذا لا يعني أن القلق لم يكن موجوداً قبل عصر الحداثة، نجده بروايات ومسرحيات شكسبير في الملك لير، وفي مسرحية يوليوس قيصر بشخصية بروتس كمتآمر لقتل القيصر، وفيما بعد نلقاه برواية جيمس وجويس “عوليس” وبطلها ليبولد بلوم في تجوله بدبلن، ونتصور القلق أيضاً مع عبارة الشاعر يتس عن حرية القناع، فحين تضع قناعاً على وجهك فأنت تخفي عالمك القلق حتى لا يراه الآخرون.
يمضي الباحث فرانسيس بمشرط الجراح الماهر يشرط جسد القلق على ضفتي المحيط الأطلنطي بأوروبا والولايات المتحدة، فالقلق عندهم هو مسألة طبيعية للإنسان العقلاني، وهو ممارسة عقلية تتشكك بالمطلق واليقيني، وهو خشية من القادم وما يحمله من احتمالات، وأوحى كتاب فرانسيس للكاتب ديفيد بروكس ليكتب في “نيويورك تايمز” عن القلق الأميركي فيما لو وصل ترامب لكرسي الرئاسة.
ماذا عن قلق الإنسان في عالمنا العربي…؟ مثلاً كيف يمكن أن نتخيل البشر الذين يحيون في حلب أو الموصل أو اليمن، قلقهم هنا يفترض أن يكون من نوع مختلف، لن يكون قلقاً وجودياً بمعنى التدبر والتأمل عن معنى الوجود، فهذا قلق أرستقراطي فلسفي لا يملكه البؤساء المعدمون، وليس قلقاً من ماركة الرأسمالية والحداثة، إنما هو قلق ينحصر باحتمال الزمن المتبقي من الحياة، قبل أن تهوي عليهم قنبلة من السماء بحلب أو اليمن، أو يكسر أبواب بيوتهم داعشي في الموصل، ويضعهم كدروع بشرية في الحرب الطائفية.
ماذا عن قلق الكثير من المصريين اليوم بعد اشتداد وطأة الحياة الاقتصادية وصعوبة أوضاع الكثيرين من الطبقات الوسطى والمهمشة؟! هل نسينا قلقنا؟ هنا بدولنا النفطية، بعد تدهور سعر النفط وبدء تفتت لحظات سنوات الرخاء شيئاً فشيئاً! هل نقلق لأن أهل السلطة لا يقلقون فنراهم بالصحف والتلفزيونات يوزعون بدون مقابل الابتسامات العريضة المطمئنة، وكأنهم واثقون تماماً من المستقبل، ولا ندري لمن تكون أسباب هذه الثقة؟ هل هي لهم وحدهم حين اطمأنوا لغدهم أم لنا معهم؟ لا ندري بالضبط لماذا لا يقلقون، أو ربما هم قلقون ويضعون قناع يتس السياسي؟ نتمنى عليهم بعض القلق، فهذا يشعرنا بالاطمئنان البسيط، وبدورنا كشعوب لنا أن نختار بأي ضفة عقلية وضعها لنا المتنبي ببيت: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله… وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
ليتنا نكون هنا من أصحاب الشقاء ونقلق، فكم أشقونا إخوان الجهالة بسخفهم وطمأنينتهم الغبية.