فاجأ الانقلاب التركي العالم، علمت بوقوعه من صديق سوري في ظل مناسبة فرحة لأصدقاء مشتركين في أوروبا. تحدثنا قليلا، كان خائفا: لو نجح الانقلاب ستسقط حلب قريبا ولن يكون للسوريين داعم، وسيدمر هذا ملايين اللاجئين الذين يلقون في تركيا معاملة متميزة“ حاولت ان أطمأن صديقي السوري فاردفت قائلا:
”الانقلاب في تركيا لن ينجح بسهولة، فتركيا دولة مؤسسات، هي دولة وسط بين الشرق الاناضولي والغرب الاسطنبولي، هي دولة بين الإسلام والعالم وبين الديمقراطية الحقة والديمقراطية النامية، الإنقلاب في دولة كهذه في هذه المرحلة من تطور اقتصادها ومؤسساتها لن ينجح، فالجيوش في الحكم لا تجلب سوى الكوارث .
ثم استمريت: لو نجح الإنقلاب، ستقع في تركيا حرب أهلية قاسية، لكن من الصعب إجتثاث تجربة اردوغان، فهي تبدو لي لا تختلف في مستواها وقيمتها التاريخية رغم نواقصها وتناقضاتها عن تجربة اتاتورك في تأسيس الدولة . ظل صديقي متوجسا، غاب لبعض الوقت في تلك الامسية إذا به يعود مبتسما، لقد سقط الإنقلاب، لقد صمد أردوغان.
ما لم أقله لصديقي إنني شخصيا متخوف على مستقبل التجربة التركية، فمن مراقبتي للقادة التاريخيين كأردوغان أجد أن استمرارهم في الحكم بعد تحقيق نجاحات استراتيجية يتحول لعنصر إضعاف مما يهدد بتفكيك التجربة. كل قائد نجح في بلاده، يجب أن يجد طريقا ليختم ارثه وهو في قمة قوته وذلك ليتحول لمرجع ونموذج لسياسيي بلده. في هذا أجد مانديلا بالتحديد في المكان الصائب في التاريخ، إذ إنسحب قبل أن يتورط في تناقضات التجربة.
ما وقع في تركيا قسم العالم العربي، فكل ناقد ورافض لسياسة الأسد تعاطف مع أردوغان وحزبه، بعض النخب العربية الرافضة لفكرة المشاركة الشعبية والمؤيدة لدور الجيوش في السياسة وجدت في الانقلاب فرصة لها، بينما الكثير من الديمقراطيين العرب شعروا أن دولة أخرى من دول الشرق في طريقها للوقوع تحت حكم الجيش. وأنقسمت الناس في البلدان العربية وفق الطائفة بل وحسب القومية ( عربي كردي).
لقد جاء الإنقلاب ضمن السياق التركي، فصراع القوة والسلطة بين أردوغان المنتخب ديمقراطيا وبين الحرس القديم ( مؤسسة الجيش) لم يتوقف للحظة منذ جاء أردوغان رئيسا للوزراء 2002. أردوغان أول من أبعد الجيش عن السياسة وجعله مؤسسة تخضع للسياسيين، لكن ذلك لم يكن ليلقى قبولا من مؤسسة إعتادت على التدخل في الحياة السياسية. من جهة أخرى تداخل هذا الوضع قي تركيا مع صراع آخر على السلطة مع حركة غولان التي تمتلك مدارس ومؤسسات ولها انتشار في تركيا وأجهزتها وبيروقراطيتها وبين القضاء ووسط الجيش. الحركة نازعت أردوغان على سلطاته بالرغم من كونها حركة غير سياسية، فهي حركة تتميز بأعتدالها في فهم الإسلام. التداخل بين الحركة والدولة والبيروقراطية جعل الصراع بين التيارين في ظل الانقلاب أقوى من أن يحل في مدى قريب. غولان حركة إسلامية التوجه شديدة الاعتدال، لقد استند اردوغان عليها في رحلة صعوده قبل ان يقع الخلاف الأكبر بين الرجلين منذ بضعة سنوات. لهذا هناك خطورة كبيرة في الاستمرار في ضرب الحركة ومدارسها، هذه الخطورة ستؤثر على الدولة التركية ومكانتها وستضر بالافق الديمقراطي لتركيا.
لقد شكل الانقلاب صراعا بين مدرستين، واحدة تؤمن بدور العسكريين في تأمين الحكم، أما المدرسة الاخرى التي يمثلها أردوغان وحزبه وتمثلها أحزاب المعارضة الناقدة لأردوغان والرافضة للإنقلاب بنفس الوقت فتؤمن بجعل تركيا دولة مدنية السلطة فيها للسياسيين وليس للجيوش. بين المدرستين صراع يميل للمدرسة المدنية. لكن هذا لايفكي، فالمرحلة القادمة في تركيا لن تكون خالية من المصاعب، وسيكون من الاستحالة بمكان إجتثاث تيار بقوة حركة غولان وأثره الروحاني، لهذا ستترك هذه الحقبة جروحا في الأمة التركية، سيكون لكل هذا إنعكاس على الاقتصاد والاستثمار والسياحة. ستبقى تركيا برأيي بلد توازنات ومؤسسات، لكن التورط في نزاع داخلي وإنتهاكات حقوقية سيؤدي لتراجع التجربة وإهتزازها.
إنتهى