يبدو أن العشرات وربما الآلاف من الناس، ممن يختبئون وراء أسماء مستعارة أو يظهرون بصور وأسماء (لكنها ليست لهم)! -على امتداد أوطاننا- في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني بكل أنواعه، يستمتعون كثيرًا بالمشاركة الفاعلة والمكثفة في حفلات زار التخوين وكرنفالات التجييش ضد من يختلف معهم ليضعوه في خانة (الخيانة).
تلك ظاهرة في غاية الخطورة، ويشتد خطرها ويبلغ مداه، حينما تتحرك بعض الدوائر الرسمية لتعتبر حفلات الزار التخوينية وكرنفالات الاستهداف وكأنها مصدر (نقي وحقيقي) موثوق الدليل والقرينة، غير أن من اللازم هنا التأكيد على أن تشجيع هذه الممارسات من شأنه أن يضاعفها وبالتالي، فإن مخاطر الصدام والتناحر تنمو وترعرع في مجتمعاتنا التي لن تتحمل أكثر مما هي فيه اليوم من اشتعال إعلامي يخلط الحابل بالنابل، والداخلي بالإقليمي، في موجة طائفية دموية سوداء، لن يمكن صدها إلا من خلال مظلة (الوطن والمواطنة الجامعة) لكل الأديان والملل والطوائف والتيارات، موالاة كانت أم معارضة.
طرحنا موضوع التخوين في مقالات سابقة وتقارير وحوارات صحافية مع شخصيات بحرينية أكدت على أن مثل هذه الممارسات نما لكونه وجد بيئة مناسبة، فبسهولة مطلقة، ودون أي موانع، يستطيع أن يتغنّى أصحاب الانتماء المصلحي المزيف، وهم يدّعون أنهم يحبون الوطن ويمجدون أيامه الوطنية، أن ينعشوا تجارتهم في مناسبة وطنية بكرنفالية مغلفة بالحقد. فالمساحة مفتوحة لديهم لأن يرموا من يخالفهم من أبناء الوطن بتلك التهمة.
في ظل ما نعيشه من آلام وأوجاع، تمنيت أن نتحصن داخل البيت البحريني ونصد كل الموجات القادمة من الخارج، ونضع كل هموم أبناء هذا البيت… وتمنيت أن يتوقف تجار الطائفية والتفرقة وشق الصف عن تخوين الناس أو تلوين التهم كما يحلو لهم.
وليست صورة «النفاق» الممجوج تلك التي يتمتع بها أدعياء المواطنة الحقة نافعة بأي حال من الأحوال، فهم يعلمون جيداً أنهم يتسببون في إلحاق أكبر الضرر بالسلم الاجتماعي لتبقى مصالحهم الذاتية، لكن هذا الأمر، والذي يستوجب التصدي للمتكسبين من إشعال نيران التأزيم. فهذه الممارسات سببت ولاتزال، إرباكًا في بيتنا البحريني الذي نتمنى أن يبقى بعيداً عن السموم التي تنتشر في مناطق أخرى.
لا يحق لأي شخص أن يخون شخص آخر، وليس لأي طرف الحق في أن يمنع ما منحه الدستور للمواطنين في التعبير عما يرونه من آراء ومواقف، فالأصل هنا، أن نفتح المجال لكل الأطراف، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنخب المثقفة، لأن تسهم في قراءة الحاضر المتشعب وتستخلص ما يمكن أن نضعه كبرنامج عمل يحمي بلادنا، فليس للبحرين إلا قيادتها وشعبها بطائفتيه الكريمتين، بل وبكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة من كل الأجناس والأديان والمعتقدات.
ليتنا جميعًا كبحرينيين، اتفقنا أم اختلفنا، تقاربنا سياسيًا أم ابتعدنا، نتصدى للبضاعة الكاسدة التي تخصص البعض في التسويق لها وترويجها في الدكاكين والمتاجر الرخيصة، حين يصر أولئك التجار على ترويج بضاعة التشكيك في الانتماء ويمارسون الطقوس (متعددة الوسائط) ويعملون جاهدين مستغلين كل منبر ومحفل ومعقل للصياح بصوت عالٍ لتوجيه تهم التشكيك، والإصرار على توجيه هذه التهمة في صور ذات ألوان متعددة ومقاسات مختلفة تناسب المرحلة، من أجل أن يقولوا: إنهم أصحاب الولاء والإنتماء الحقيقي… أمّا دونهم من الناس… فلا.
تلك بضاعة كاسدة حقاً؛ فالوطن ليس قصيدة تلقى على مسامع الجماهير، وليس أهزوجة في كرنفال بهيج، وليس أرضًا بلا سماء. ليس الوطن مسرحاً للتناحر وإعلان الانتماء بطمس الانتماء.
الوطن نبض لا يتوقف، ينطلق من قلوب كل البحرينيين ويسري في عروقهم، فتمتد أياديهم بالعطاء والبناء والخير… لا بالهدم والتفتيت.