ما ضمانة عدم استبداد الاسلاميين بالسلطة إذا وصلوها عن طريق الديموقراطية؟ كان هذا السؤال دارجا على ألسنة التيارات العلمانية قبل الربيع العربي، وهو يعبر عن خوفهم من أن يكون تبني الحركات الإسلامية للعمل السياسي خيارا تكتكيا من أجل الوصول إلى السلطة، ثم الانقلاب عليها والاستبداد بها، لكن الربيع العربي أسقط هذا السؤال، ورمى به في الجهة الأخرى.
لم يعد لهذا السؤال معنى، بعد أن رسب الكثير من النخب العلمانية في اختبار الديموقراطية، ووقف كثير منهم في صف الانقلابات العسكرية، وشرعنة الثورة المضادة، وتبرير الإقصاء بحجة أن الديموقراطية ليست مجرد صندوق انتخاب، وهي المقدمة الصحيحة التي يتوصلون من خلالها إلى نتائج مغلوطة، تجعل من المشروع جدا أن نتساءل: ما ضمانة عدم استبداد العلمانيين بالسلطة إذا وصلوها عن طريق الديموقراطية، خصوصا أن الذاكرة التاريخية العربية متخمة بنماذج معاصرة لأنظمة شمولية انقلابية، وفي الوقت نفسه علمانية جعلت صناديق القمامة أكثر احتراما من صناديق الاقتراع!
تعيش العلمانية العربية هذه الأيام أكثر مراحلها انكشافا وانفضاحا، بعد أن حصروا المقابل الموضوع للدولة المدنية في الدولة الدينية وليس الدولة العسكرية، لا سيما إن كان هذا النظام الشمولي العسكري رافعا شعارات إقصاء الدين عن الفضاء العام، فمثل ذلك لا يمثل استفزازا لمشاعرهم مثلما يستفزهم أي مظهر أو خطاب ديني في الدولة، ولا يرون ضيرا في قمعه ولو بدبابة العسكر.
كانت التجربة الفاشلة للانقلاب في تركيا آخر محطات السقوط العلماني العربي- ولا أظنها الأخيرة – حيث تجلى من جديد عدم إيمان النخب العلمانية لاختيارات الشعب، فسرعان ما ذرفوا دموع الإنسانية على الانقلابيين، وأخذوا يدينون الإجراءات التي اتُخذت في حقهم، ولم يكن حزنهم على ضحايا الانقلاب من الشعب أو على التجربة الديموقراطية والحياة المدنية أكثر من حزنهم على مصير الانقلابيين، والمفارقة العجيبة أن كثيرا من هؤلاء النخب صفقوا أو صمتوا عن انقلابات عسكرية على سلطة مدنية في بعض الدول العربية، بينما اليوم يُدينون إجراءات تقوم بها سلطة مدنية في حق انقلاب عسكري، ولا يخلو هذا المسلك من مزايدة مقززة، حيث لم يكن للأحزاب العلمانية في تركيا مثل هذا الموقف، بل كانت أكثر تفهما للحالة الاستثنائية التي تعيشها بلادهم.
هذه النخب جرّت الويلات على عالمينا العربي والإسلامي في السابق، وتأتي اليوم لتعيد إنتاج نفسها بخطاب قد يختلف بالشكل عن السابق، لكنه يحمل المضمونين الإقصائي والاستئصالي نفسيهما.