تعرضت تركيا الأسبوع الماضي لانقلاب عسكري فشل في تحقيق أهدافه، وقد أعرب رئيس الوزراء التركي عن اعتقاده بأنه لا آثار جوهرية متوقعة للانقلاب في الاقتصاد التركي. غير أن واقع الحال هو أن الانقلاب قد خلف آثارا عميقة في الاقتصاد التركي على الأقل في المديين القصير والمتوسط، أحاول في هذا المقال اختصارها.
من المتوقع أن تتراجع قدرة تركيا على جذب الاستثمارات الأجنبية، التي تتكشف أهميتها بالنظر إلى وضع ميزان المدفوعات التركي حاليا، حيث تصل نسبة العجز التجاري إلى نحو 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ونتيجة للانقلاب يتوقع المراقبون أن ترتفع نسبة العجز إلى الناتج إلى 5 في المائة هذا العام ونحو 5.4 في المائة في 2017. إذا صحت هذه التوقعات فإن ذلك سيجعل تركيا أكثر اعتمادا على الديون الخارجية لتغطية العجز، وهو ما يعقد الأوضاع في تركيا. حيث ينظر للتمويل الخارجي دائما على أنه يرفع مخاطر الدين السيادي، ويضعف القوائم المالية للمصارف، التي تعتمد على الخارج في تدبير التمويلات اللازمة للقطاعات المختلفة محليا.
كذلك من المتوقع مع تراجع الاستثمار الأجنبي أن تتزايد نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي. ومن الملاحظ أن الدين الخارجي لتركيا قد تزايد بصورة واضحة خلال الفترة الأخيرة من 38 في المائة في 2008، إلى 55 في المائة في 2015. بالطبع مع تراجع قيمة الليرة التركية ستزداد الأعباء المالية على الشركات والحكومة نتيجة ارتفاع عبء الدين الخارجي بالعملة المحلية، خصوصا بالنسبة الشركات التي تتحقق إيراداتها بالعملة المحلية.
في اليوم الذي حدث فيه الانقلاب انخفضت قيمة الليرة التركية بنحو 5 في المائة، وإن بدأت تستعيد بعض خسائرها مع فشل الانقلاب. من الناحية النظرية يفترض أن يؤدي ذلك إلى تحسين أوضاع الميزان التجاري. غير أنه في ظل التوقعات بتصاعد الصراع السياسي مع محاولات أردوغان اتخاذ إجراءات لتعزيز سلطته في إدارة البلاد، التي ينظر إليها الغرب على أنها تتم خارج نطاق القانون وتمثل قفزة على الدستور، فإن الأطراف المتصارعة سياسيا لن تقبل بأن تمر تلك الإصلاحات بسهولة. ربما لا يبدو ذلك واضحا اليوم باعتبار أن الانقلاب ما زال ساخنا. لكن الصراع السياسي سيرفع مخاطر أداء الأعمال في تركيا، ومن ثم المزيد من الضغوط على العملة.
منذ أن تولى أردوغان رئاسة وزراء تركيا في 2003، ورئيسا في 2014 وتركيا تحقق معدل نمو تجاوز 5 في المائة في المتوسط سنويا، بما فيها سنوات الأزمة المالية العالمية، غير أنه قبل وقوع الانقلاب، ونتيجة للأوضاع السياسية الداخلية، كان الاقتصاد التركي قد حقق تراجعا في النمو في الربع الأول من هذا العام. في الوقت الحالي يتوقع كثير من المراقبين أن يتراجع النمو إلى نحو 4 في المائة هذا العام. من جانب آخر فقد توقع صندوق النقد الدولي قبل الانقلاب أن يتراجع النمو إلى 3.5 في المائة فقط بدءا من عام 2018. غير أنه في ظل التطورات الحالية، ربما تراجع المؤسسات الدولية تقديراتها للنمو التركي في المدى المتوسط.
نتيجة لهذه التطورات استجاب البنك المركزي التركي يوم الثلاثاء الماضي حينما أعلن خفض معدل الإقراض بربع في المائة، كما أعلن أنه سيوفر كمية غير محدودة من السيولة وذلك لبث الثقة بين المستثمرين. بهذا الشكل ينخفض معدل الفائدة على القروض لمدة ليلة (معدل الفائدة المستهدف للبنك المركزي) إلى 8.75 في المائة، الأمر الذي يزيد من الضغوط على الليرة، ولكن هل تراجع النمو في الاقتصاد التركي يمكن أن يؤثر في نمو الاقتصاد العالمي؟ الواقع أنه بالنظر إلى حجم الاقتصاد التركي ومساهمته في النمو العالمي، فإن الانقلاب التركي لا يتوقع أن يكون له التأثيرات السلبية ذاتها لتراجع نمو الاقتصادات الكبرى مثل الصين أو المملكة المتحدة.
شخصيا أعتقد أن الانقلاب سيعكس اتجاهات النمو بصورة سلبية، وذلك في اتجاه أفضل، ما يمكن التعبير عنه بأنه متلازمة الدول الناشئة، أي الدول التي ترتفع فيها معدلات النمو، ثم يتحول هذا الاتجاه نحو التراجع لاحقا، مثلما حدث مع الدول الآسيوية في التسعينيات أو الصين أو البرازيل أو جنوب إفريقيا حاليا.
مع تراجع النمو من المتوقع أيضا أن ترتفع معدلات التضخم، الذي بلغ مستويات مرتفعة في الوقت الحالي، ففي حزيران (يونيو) 2016 بلغ معدل التضخم 7.6 في المائة، وهو معدل مرتفع ويتجاوز المعدل المستهدف من جانب البنك المركزي الذي يساوي حاليا 5 في المائة. بالطبع مع تراجع الليرة سيرتفع التضخم بصورة أكبر.
لعل أهم وأخطر الآثار المتوقعة للانقلاب هي في قطاع السياحة، الذي كان يعاني أصلا التدهور بعد تعقد العلاقات السياسية مع روسيا، فضلا عما خلفته هجمات «داعش» والأكراد من آثار سلبية في القطاع. فوفقا للإحصاءات المتاحة يقدر أن أعداد السائحين قد تراجعت في الربع الأول من هذا العام بنسبة 10 في المائة، على الرغم من انخفاض تكلفة السياحة في تركيا، ووفقا لمكاتب السياحة والسفر تقدر نسبة إلغاء الحجوزات بنحو الثلث، وهو ما يزيد من الضغوط على العرض من العملات الأجنبية.
كان معظم المراقبين يتوقع أن تفقد تركيا تصنيفها الائتماني السيادي الحالي بسبب انعكاسات الانقلاب، وأثناء كتابة هذا المقال أعلنت مؤسسة ستاندارد آند بورز للتصنيف تخفيض التصنيف الائتماني السيادي لتركيا، وهي أول مؤسسة عالمية تخفض تصنيف تركيا، ووفقا للمؤسسة فإن الانقلاب قد أدى إلى تآكل الجوانب المؤسسية للدولة، الأمر الذي يتوقع معه أن تتأثر تدفقات رؤوس الأموال من الخارج سلبا. من جانب آخر، أفادت المؤسسة أن نظرتها المستقبلية للاقتصاد التركي سلبية، وهو ما يعني أن المؤسسة قد تلجأ إلى تخفيض التصنيف في المستقبل، إذا ما تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمالية وأوضاع الدين التركي.
بهذا التصنيف الجديد تتحول الديون التركية إلى ديون خردة أو غير مرغوب الاستثمار فيها. لذلك أتوقع خفض التصنيف الائتماني لتركيا من جانب المؤسستين الأخريين قريبا جدا. بالطبع تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا سيرفع من تكلفة الائتمان الذي تحصل عليه كل من الحكومة والقطاع الخاص، ما يجعل من سد العجز التجاري لتركيا أمرا مكلفا.
عزيزي القارئ هذا جزء من التكلفة الاقتصادية للانقلاب، وهناك تكاليف أخرى عزفت عن ذكرها لاعتبارات المساحة.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟